محمد بن علي المحمود - اليراض السعودية كثيرا ما يعتب علينا إخواننا التقليديون، أو الإسلامويون الذين يُمثّلون التمظهر الحركي النّشط للتقليدية الأثرية الاتباعية في الواقع؛ لأننا لا نقرأ حراكهم في هذا الواقع إلا بوصفه حراكا سلبيا خالص السلبية، مجردا من كل أثر إيجابي ، ومعزولا عن كل مردود يُمكن أن يخفف من تصورنا السلبي الذي كثيرا ما نستعرضه، ونصف من خلاله كارثية حضورهم في الواقع . إنهم يعتبون علينا من منطلق أن أشد الأشياء سلبية في الواقع ، لا بد لها من مستوى إيجابي لا يجوز إغفاله ، خاصة عندما تتوالى المقاربات النقدية على مدى زمني طويل ، وتتوسع في فحص الظاهرة من جوانب وزوايا ومستويات متعددة ، جوانب وزوايا ومستويات لا بد أن يكون لبعضها خاصية تنحو بها ولو قليلا إلى سياقات الفعل الإيجابي الذي يستحق ولو شيئا من الالتفات . لا وجود لشيء خالص في إيجابيته ، كما لا وجود لشيء خالص في سلبيته . ومن خلال هذه القاعدة المتفق عليها بداهة ؛ يرى إخواننا التقليديون ، وربما يؤيدهم غيرهم من أولئك المعنيين بمعاينة الظاهرة الأصولية المعاصرة ، أن استعراض التقليدية / الإسلاموية المعاصرة / الأصولية بتلك الصورة التي تُشَيْطنها ، ليس من العدالة / الموضوعية العلمية في شيء ، وأن مثل هذا العرض ( اللامحايد ! ) يطعن في مصداقية الخطاب الناقد ، بل قد يجرده من ( هويته النقدية ) ، ويُحوّله من فاعل ( ثقافي ناقد ) ، إلى مجرد ( خصم حاقد ) ، خصم يهدف إلى تدمير الظاهرة بكل ما فيها ، أكثر مما يهدف إلى فهمها ، ووضعها في سياقها الطبيعي الذي يحمي الآخرين منها ومن آثارها ؛ بقدر ما يحميها ويحفظ لها وجودها ؛ بوصفها أحد تجليات الاجتماعي الذي يجب أن يُكفل له حقه في الوجود . لا شك أننا لو قرأنا الإسلاموية إبان حضورها الدعائي / الدعوي لرأينا فيها شعارات جميلة، ومقولات عامة، لكنها لا تدخل في التفاصيل التي ( تتدخّل ) في دقائق السلوك ، ولا تُصرّح بمبدأ الإلزام القسري ذي الطابع الاستبدادي... ربما كان عَتَبُ أو غضب إخواننا التقليديين مُبررّا؛ لأننا نشرنا عشرات المقالات في تعرية مقولات التقليدية وسلوكيات التقليديين ، وأسهبنا ( قدر ما تسمح به الحريات المتاحة ) في فضح المكونات الأساسية لتيار التقليدية الاتباعية الأثرية، وسلطنا الأضواء الكاشفة على كثير من الظواهر السلبية التي تَنْتُج عن تنامي حضور الخطاب التقليدي في الواقع ، في الوقت الذي لم نُشر فيه ولو إشارة عابرة كما يقولون إلى أي جانب إيجابي لهؤلاء الذين يحضرون بفاعلية عالية ( بصرف النظر عن تقييم هذه الفعالية إيجابا أوسلبا ) في الواقع ، ويؤثرون في مجريات الأحداث ، ويتحكمون إلى درجة الهيمنة التامة بوعي شريحة عريضة من الجماهير . إن هذا الموضوع ، وتحديدا في مثل هذا السياق المقارن ذي الطابع الجدلي ، شائكٌ وإشكاليٌ ومُعقد ؛ لارتباطه بأبعاد متنوعة في ارتباطاتها ، ومتفاوتة في سياقاتها . إنه موضوع نظري ؛ بقدر ما هو واقعي ، ولا تدري هنا ، هل تناقش المبادئ الأساسية المرتبطة بالقيم والمقاصد الكلية ، أم تُسائل النظرية ، أم تقوم بعملية جرد حسابي لما حدث على أرض الواقع ، أم تركز اهتمامك على تلك التوترات والتحرزات والتجاوزات التي تُرافق تنزيل النظرية في الواقع ، فضلا عن مساءلة الإشكاليات التي ترافق عملية تعديل النظرية على ضوء استحقاقات الواقع المتغير . فهذه كلها أسئلة مفتوحة ، وهي في الوقت نفسه أسئلة مشروعة ، كما أنها أسئلة مُلّحة ؛ بقدر إلحاح وإصرار الحراك الأصولي على الفعل في واقع متعولم يتأبّى عليه باستمرار . إنه موضوع أكبر من مقال ، بل وأكبر من كتاب . ولأنه كذلك ، فسأعمد إلى إضاءة بعض النقاط الأساسية بأسلوب مختزل ؛ رغم الحيف الذي سيقع على الفكرة الأساس ؛ جراء هذا الاختزال الذي يستهدف المستوى الجماهيري في فكرة هي في مصدرها الإشكالي جماهيرية الأبعاد . إذن ، ولأجل التقريب والتوضيح ، يمكن إضاءة الموضوع من خلال النقاط الاختزالية التالية : 1 ليس صحيحا أننا لم نُشِر قط إلى أي منحى إيجابي في الظاهرة الإسلاموية المعاصرة ذات الملامح التقليدية الخالصة . صحيح أن الإشارات كانت قليلة وخافتة ومُدرجة في سياق السلب ، لكنها لم تكن معدومة بحال . فحتى الزمن الغفوي الذي يُمثّل أعلى درجة وصل إليها فوران التقليدية ، وأشد صورها اشتباكا مع الواقع ، كنا قد أشرنا صراحة إلى أنه (= الزمن الغفوي ) ، ورغم كل سلبياته الواضحة ، بل ورغم كل ما أنتجه من كوارث في مستويي : العقل والواقع ، حرّك الراكد ، واستحضر وَجها تأويليا للإسلام ، واستفز القراءات الأخرى المغايرة ، بل والمضادة ،أقصد : تلك القراءات التي استطاعت أن تتماس مع الجماهيري ، لا بذات طرحها الذي كان نخبويا في مجمله ، وإنما بحكم اشتباكها مع الإسلاموية / التقليدية كخطاب جماهيري واسع الانتشار ، خطاب قادر على وضع مقولات خصومه في مجال الاهتمام الجماهيري ؛ ولو كان تسويقا غير مقصود يتم تمريره على طبق من هجاء . بل وبفضل هذا الزمن الغفوي أصبح التاريخ والتراث شريكين أساسيين ( بصرف النظر عن تقييمنا لمستوى الشراكة وطبيعتها وجدواها ) في تلك الجدلية الإحيائية التي تحاول الخروج بنا من نفق التخلف والانحطاط الذي نقبع فيه منذ قرون . مما يعني أن الأطروحة الإحيائية لم تعد أحادية البعد ، ولا أحادية المصدر ، بل أصبحت رؤية متعددة الأبعاد . 2 من ناحية البُعد الزمني ، نجد أن الفترة التي قاربنا فيها الظاهرة الإسلاموية كانت تحديدا : فترة اصطدامها الدامي مع مجتمعاتها ، أي أننا كنا نمارس قراءتها في أسوأ فتراتها ( العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ) ، فترة نضوج ثمارها المُدمّرة من جهة ، وفترة استبانة عجزها عن تحقيق وعودها الكبرى من جهة أخرى . ولهذا ، كان من الطبيعي أن نستحضر الإسلاموية في أسوأ صورها الواقعية ، أي أن نستحضرها كما تحضر هي في الواقع فعلا ، وليس كما تتمنى هي أن تكون صورتها في عالم الأذهان . إن التقليدية أو الإسلاموية المعاصرة ، عندما تتبنى خطاب التكفير ، وتشرعنه من خلال أصول التقليدية الاتباعية الأثرية ، وفي الوقت نفسه تُوافقها التقليدية على ذات المنطق الديني / العقائدي الذي تقوم عليه هذه الشرعنة ( حتى وإن اختلفت معها براجماتيا في ظروف التطبيق ) ، وعندما ينتج عن هذا التكفير ، والقتل ، والتفجير ، وإرادة الهيمنة ، تلك الإرادة الدكتاتورية / الاستبدادية التي يُراد لها أن تُحاصر الحريات بشتى أنواعها ...إلخ تلك الممارسات السلبية ، فلن يتم استحضارها من الجهة الأخرى ، الجهة الإيجابية ، أي من جهة أنها تدعو إلى إقامة الصلاة ، أو تحض على أداء الزكاة ، أو توصي ببر الوالدين وصلة الأرحام ، أو تنهى عن الربا والمسكرات والمخدرات ..إلخ . بل قد يحدث ما هو أسوأ من ذلك ، إذ قد تتم قراءة الإيجابي فيها بوصفه تمهيدا مقصودا لصناعة جماهيرية يتكئ عليها الفاعل السلبي في ممارسة سلبياته ؛ خاصة عندما يكون التكفير والتضليل والتبديع والنبذ والإقصاء والحجر على الحريات وملاحقة كل حركات الإبداع ، وإدانة كل أشكال الفنون ، هو الصوت الأعلى الذي يطغى على جميع الأصوات داخل الخطاب . لا شك أننا لو قرأنا الإسلاموية إبان حضورها الدعائي / الدعوي ، قبل أن تتنزل في الواقع ، وقبل أن تنتقل من عالم القول إلى عالم الفعل ، وقبل أن يقودها إحساسها بالقوة الناتجة عن الزخم الجماهيري الكبير إلى محاولة فرض رؤيتها على الناس بالقوة ؛ لرأينا فيها ( في مقولاتها وشعاراتها المعلنة ) كثيرا من الإيجابيات ، بل وربما كثيرا من الآمال . لقد كانت الشعارات جميلة ، والمقولات عامة ، بحيث لا تدخل في التفاصيل التي ( تتدخّل ) في دقائق السلوك ، ولا تُصرّح بمبدأ الإلزام القسري ذي الطابع الاستبدادي . ولهذا انخدع بها كثيرون آنذاك ، وتصوروا واهمين ( تحت ضغط جمال ومثالية الشعارات ) أنها هي طوق النجاة الوحيد !. 3 على المستوى الفردي؛ لا شك أن في الوسط التقليدي عموما ، والإسلاموي خصوصا ، كثيرا من الأخيار ، بل والتقاة الأبرار . هناك أفراد في غاية النبل ، وفي قمة التسامح ، وفي أسمى صور الورع ، أفراد لا هدف لهم إلا تحقيق الخير العام على المستوى المجتمعي ، وتحقيق كمال الورع وبراءة الذمة على المستوى الشخصي . لكن هؤلاء ، ورغم وجودهم ، ورغم كونهم -أحيانا - عناصر غير مجهولة ولا هامشية، لا يمثلون حقيقة التيار التقليدي / الإسلاموي / الأصولي في خطه العام ، أي لا يُمثّلون الصورة في خطوطها الأساسية ، فهؤلاء ليسوا هم الذين يحركون مجريات الأحداث داخل التيار ، ولا هم الذين يؤثرون في سلوكيات الأتباع ، ولا هم الذين سيقودون الصراع ؛ فيما لو حدث صراع من أي نوع بين التقليدية / الأصولية ومناوئيها . هؤلاء الأخيار ، هم الاستثناء الجميل في عالم مشحون بمقولات التكفير والتضليل والتبديع ، هؤلاء هم الطمأنينة الخافتة في عالم صاخب بالرعب ، عالم ملتهب إلى حد الجنون بأحلام السيطرة والهيمنة ، عالم مهووس بإخضاع المجتمع لرؤيته الخاصة المنغلقة بأقصى درجات الانغلاق . يتبع