يبدو أننا نعيش أزمة قيم، أو هذا هو الواقع الحقيقي لبعض الفضاء الاجتماعي على امتداداته الجغرافية، وشرائحه الاجتماعية، لا يستثنى من ذلك بعض النخب، إن لم نقل - دون وجل أو تطرف - أن هذا البعض من النخب قد أوجد هذه الأزمة بمهارة، وذكاء، وخبث، أو كرسها كسلوك، ومفاهيم، وممارسات، لكي تستأثر بكثير من الامتيازات المالية، والاجتماعية، وتُهيمن على مفاصل الحياة، وتُسيطر على توجيه الثروات، وعملية الإنتاج، وتجعل كل المناشط الإنتاجية تدور في فلك مصالحها، ومكاسبها، ورغباتها في تنميط وتوجيه مسارات النمو والتنمية، ومصادر الدخول، غير عابئين أو ملتفتين إلى الوطن بوصفه إرثاً جميلاً ومبهراً تركه الأجداد لنا متوهجاً، واعداً، متحفزاً للدخول في منظومة العالم الحديث بمعارفه، وثقافاته، ووعيه، ومنتجه التنويري، وعلينا أن نبقيه للأجيال القادمة وطناً للحداثة، واستيعاب مضامين الحياة العصرية، ومساهماً فاعلاً وقوياً في صناعة الحضارة الإنسانية، فالوطن يمتلك القدرات، والمؤهلات، والأدوات المادية لتحقيق كل هذا، إذا ما تعاملنا مع الجغرافيا، والتاريخ، والإنسان على أساس أن هذه المكونات مسؤولية، وأمانة، وانتماء، وهوية، وأن المصالح الآنية سلوك رخيص وتافه، والبقاء للوطن، والإنسان بلا وطن يعشقه، ويحافظ عليه هو كائن لا قيمة له، ولا أمن في حياته، ولا جذر انتمائيا، أو جسور هوية تحفظ له امتداداً حياتياً يتناغم مع طموحاته، ويتفاعل من خلاله مع الأمم والشعوب الأخرى بوعي قيمي، وفكري، وثقافي. أزمة القيم هذه إذا تكرست وتفاعلت وقويت وتحولت إلى سلوك، وممارسة، فإنها تستدعي الانهيارات، والأوجاع، والداءات الاجتماعية، وتعيق كل خطوات، ورغبات التطور، والتفكير في حفظ الوطن والمجتمع من منزلقات خطيرة تقضي على البنية الاجتماعية، وتطلعاتها نحو المشاركة والإنتاج والعمل، وتعيق كل رؤى استشرافية تعمل على وضع الوطن والإنسان في مضامين الحداثة، والمعرفة، ومنتج العقل البشري كصانع أو مشارك في صناعتها، وليس هامشاً أو متفرجاً ومستهلكاً لها. نحن في حاجة إلى إعادة إنتاج القيم الرفيعة التي حافظنا عليها منذ الأزل حتى جاء زمن ران فيه ما ران على النفوس والأخلاق من شراسة المادة، والنفعية، والانتهازية، والوصولية، فارتكبنا الموبقات والخطايا في حق المجتمع، والوطن، وتلوّث البعض عبر وأد عفة اليد، واللسان، وموت الضمائر، حتى صارت الممارسات المتدنية والوضيعة تسوغ من خلال مصطلحات "الشطارة" و"الذكاء" و"جلد ماهوب جلدك جرّه على الشوك"، إلى آخر التبريرات البليدة التي تشي بمستويات أخلاقية غاية في الانحطاط. ممارسة الفساد، وهدر المال العام، والاستيلاء على أموال الدولة بطرق غير مشروعة، والاحتيال على القوانين والأنظمة، وإخضاع مشروعات التنمية للمصالح، والأهواء، والأغراض، والنظر لها من خلال ماذا سنجني خلالها من مكاسب مادية، وما يدخل لأرصدتنا البنكية من أرقام، كلها ممارسات تصرخ بحقيقة أن البعض يعيش أزمة قيم، وأن هذا البعض يتعامل مع الوطن كقطعة "جاتوه"، وهذا غاية الألم، والحزن. نحتاج إلى إعادة هيكلة قيمنا لنكون في مأمن، ونعبر إلى تاريخ شفاف لا يرحم.