من المؤسف أن لبنان في زمن الربيع العربي والثورات العربية يبدو على غير ما اعتقده العالم ومنه إخوته العرب وتوسمه فيه إخوانه العرب خصوصاً من روح ريادية وتمسك بالدور ونزوع الى الابتكار والريادة وشق الطريق أمام البعيد والقريب ارفق بعمروٍ إذا حرّكت نسبته فإنه عربيّ من قوارير تلك هي السياسة التي اعتمدها الفرنسيون أثناء انتدابهم من قبل عصبة الأمم أوصياء على لبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى. فهم لم يذهبوا الى حد القول إن اللبنانيين لا يريدون الاستقلال ولا العروبة. ولكنهم برهنوا عن معرفة بخصوصية المنطقة حين اقترحوا صيغة وسطية بين الاستقلال التام ، والعروبة مراهنين على أنها ستكون كافية لارضاء أكثرية الشعب اللبناني.. هذا بالفعل ما اعتمدته فيما بعد حكومة الاستقلال عندما طمأنت المسيحيين على استقلالية الوطن اللبناني وأرضت المسلمين بالتأكيد على عروبته. عندما أعلن رئيس الحكومة الأسبق رياض الصلح الميثاق الوطني العام 1943 لم يكن لبنان قد تبلغ صورته المستقبلية كوطن مستقل ذي وجه عربي يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب، وما كاد هذا الكلام يقال في البرلمان حتى هبّ اللبنانيون مجمعين على تأييد حكومته كما لم يجمع شعب على تأييد أي حكومة. والدليل رد الفعل الشعبي الغاضب على اعتقال الفرنسيين الرئيس بشارة الخوري ورياض الصلح في أعقاب جلسة الثقة اللبنانية بالحكومة، واضطرار الفرنسيين لإطلاق سراحهما من سجنهما في راشيا. بل إن صغر حجم لبنان المنتصر على دولة كبيرة كفرنسا أعطى رمزية شديدة التأثير في بلاد العالم كله. فكأنه زمن جديد يولد بشَراً بتاريخ مختلف للعالم أجمع ففي الوقت الذي ينجح في تحرير آسيا هندي شبه عارٍ كغاندي ها هو لبنان أصغر الأقطار الآسيوية يحقق نصراً على دولة أوروبية كبرى كفرنسا. فكأنه عصر جديد يولد هو عصر انتصار الحقوق والقوى المعنوية للشعوب المستضعَفة على سطوة أقوياء الحجم المادي وأطماعهم. ولابد هنا من وقفة خاصة عند شخصية الزعيم الهندي الذي لم يترك مناسبة إلا وأثنى فيها على الزعامات العربية المجاهدة ضد الأطماع الغربية، ومنها سعد زغلول الذي وصفه بأنه زعيم أفريقيا كلها وقال عنه إنه محرر جنوب أفريقيا وليس الشمال بالذات من أطماع المستعمرين فيها، وقص أنه سمع من زعماء جنوب أفريقيا هذا الرأي. وهناك مؤتمرات عقدت في أكثر من عاصمة عالمية باسم المؤتمر الآسيوي - الافريقي. وقد وصف شاعر مصري شعبي غاندي بأنه القائد العفيف الذي لم يكن له في زهده نصيب جندي!! من المؤسف أن لبنان في زمن الربيع العربي والثورات العربية يبدو على غير ما اعتقده العالم ومنه إخوته العرب وتوسمه فيه اخوانه العرب خصوصاً من روح ريادية وتمسك بالدور ونزوع الى الابتكار والريادة وشق الطريق أمام البعيد والقريب، فذلك ما كان دوره دائماً منذ عصر النهضة العربية في القرن التاسع عشر بل ما قبل، وما يجب أن يستمر فيه دائماً، ففي زمن تطورت فيه وتتطور حياة العرب في مشارقهم ومغاربهم يلتفت اللبنانيون الى أوضاعهم وحظوظهم فيجدونها حيث هي وكأن لبنان اليوم ليس هو ابن لبنان الأمس وقبل الاسم بل ليس مقلداً له على أقل تقدير. إن الانتماء لروح العصر الذي كان دائماً سر نهضوية اللبناني وقت ما تتراجع المؤشرات عليه منذ زمن فهل تراه نسي ذلك في الوقت الذي هو في أمس الحاجة إليه؟ إن التنقيب عن الثروة فوق الأرض وتحت الأرض ضرورة دائمة ولكن الضرورة الأشد إلحاحاً هي التنقيب داخل العقل فهل هناك من يدعو الى ذلك اليوم وأين هو؟ إن لبنان الذي طالما استفاد منذ زمن بعيد من تعدديته الثقافية والطائفية يعيش منذ زمن قلقاً متصاعداً نتيجة تنامي نزاعات التطرف الديني والمذهبي الطائفي في هذه الأيام. بل إن طبيعة الخلافات كانت أرقى بلا شك. كان اللبنانيون مختلفين على المواقف السياسية كيف نحارب الانتداب الفرنسي، وكيف نبني استقلالنا الوطني؟ أما الخلافات اليوم فكيف توزع الحصص والمغانم؟! كان المسلمون أسبق الى المناداة بالعروبة وكان المسيحيون أسبق الى المناداة بالجمهورية. وعند تأسيس جامعة الدول العربية رحب بها المسلمون لأنها قرّبتهم الى الوحدة الجامعة. أما المسيحيون فرحبوا بها لأنها صنعت لهم استقلالهم الجمهوري. إن اللبنانيين مجمعون على الترحيب بظاهرة الثورات العربية، فقد رأى فيها كل فريق منهم الحاضر والمستقبل معاً. ولكنهم، ولن نقول كلهم، غارقون في خلافات سببها التطرف المتأتي من القلق على المستقبل في زمن التحولات الكبرى. إن كل خائف مخيف ما لم تنشأ في لبنان الدولة التي لا تخاف الا من غياب القانون وتنامي العصبيات الممزقة لوحدة الوطن من طائفية وغير طائفية، فإن لبنان سيستمر في سماع أبشع مفارقة وهي مدح اللبنانيين على حساب وطنهم ودولتهم، كالقول المردود والقائل: إن اللبناني جيد ومنتج ولكن الدولة اللبنانية هي الفاشلة وكأن التقصير في بناء الدولة ليس عيباً في الافراد والجماعات. فإلى متى يستمر اللبناني سكراناً بمدحه الشخصي على حساب الطعن بدولته؟ إن الشعوب النهضوية هي من الشعوب التي ترفض ان تمدح على حساب دولها، فالالماني العادي والتركي العادي يفضلان أن يسمعا المديح يكال لدولتيهما على المديح لشخصهما على حساب وطنيهما ودولتيهما. فمتى تنشأ في بلادنا العربية مثل هذه الادبيات الراقية حيث يفضل الفرد ان يتحمل هو مسؤولية التقصير على تحميل الدولة او المجتمع المسؤولية ورفعها عنه. إن تحميل الذات الفردية مسؤولية النقص والخطأ هو علامة التمدن الحقيقي عند الافراد والجماعات وقد يكون هذا أكثر ما يكون مطلوبا في شعوبنا ومجتمعاتنا حيث الميل دائما الى رفع المسؤولية عن الذات وتحميلها للأخر سواء الدولة او المجتمع ككل..