إن الفجوة تتسع باستمرار نتيجة السرعة التي يسير بها العصر ومسيرة الهوينا التي تعودناها نحن العرب منذ زمن، ولم نخرج منها بعدُ رغم توسع الفارق المتصاعد بين السرعة الاسرائيلية في الجري الى أمام، والبطء التقليدي في المسيرة العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً وإن لم تكن هذه أفضل بكثير من مجمل المسيرات العربية هل أصبحت المرايا الغربية هي الأكثر أمانة وشفافية في قراءة أوضاعنا العربية، ومجمل تطلعاتنا على نحو ما يوحي التقرير الاخباري الصادر مؤخراً في لندن بالعربية وفيه يروي وزير الخارجية الاميركية الاسبق هنري كيسنجر وقائع جولة في الشرق الأوسط قام بها في السبعينيات ويقول في نصه الذي نشرته مطبوعة "الدبلوماسي" المتخصصة الصادرة في لندن إن سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية لاتزال حتى الآن هي الاستمرار في السياسات الأميركية السابقة، وما الاختلاف بين النصوص القديمة والجديدة إلا في التفاصيل؟! ويتوقف برهة هنا شارحاً كيف أن الولاياتالمتحدة الأميركية سحبت مؤخراً دعمها للرئيس المصري حسني مبارك باخلة عليه حتى بالتفسير لهذا الموقف المستجد.. ويكمل كيسنجر موضحا أن سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية ارتبطت منذ ثلاثين عاماً حتى الآن بسياسة واحدة مستمرة مع بلد عربي رئيسي هو مصر. أما عن موقف الولاياتالمتحدة من الرئيس السوري بشار الأسد فقد قال الوزير الشهير بوضوح أيضاً إنه لا يجوز لها أن تسحب يدها منه. وعن الموقف من ليبيا، قال إن لأميركا اتفاقاً مع العقيد القذافي لا بد من الالتزام به. وأنهى ملاحظاته، على السياسة الأميركية قائلا إن المراقب لا يستطيع أن يستنتج ماذا ستؤول إليه السياسة الأميركية في زمن تتردد فيه في كل مكان من البلدان العربية كلمة "الثورة". وهكذا يستخلص كيسنجر صعوبة اتخاذ الأنظمة العربية موقفاً ثابتاً لأن زمن المراهنات السلمية هو غير هذا الزمن الذي نعيشه، فالوقت يسبقنا كعرب ونحن نيام او كالنيام... إن الفجوة تتسع باستمرار نتيجة السرعة التي يسير بها العصر ومسيرة الهوينا التي تعودناها نحن العرب منذ زمن، ولم نخرج منها بعدُ رغم توسع الفارق المتصاعد بين السرعة الاسرائيلية في الجري الى أمام، والبطء التقليدي في المسيرة العربية عموماً والفلسطينية خصوصاً وإن لم تكن هذه أفضل بكثير من مجمل المسيرات العربية. رحم الله مؤسس النضال الفلسطيني الحاج أمين الحسيني الذي قال مرة واصفاً العزلة الفلسطينية: "يدنا في النار ويد غيرنا (أي الدول العربية) في الماء"! والواقع ان الفلسطيني واللبناني كانا دائماً شاكيين كلّ من زاويته ولأسبابه الخاصة من البطء العربي في مد اليد للاخ الشقيق. كان لبنان الساحل والجبل منذ العصر العثماني أحد الأقطار العربية الأسبق الى اعتماد العروبة القومية بالمعنى الحديث طريقاً لنهضة الأمة وتحررها فالاسلام في لبنان عربي غير مشرك، والمسيحية شرقية خالصة الشرقية، وكلاهما رفض كامل للاستعمار ونزعة تنافسية مع الغرب كحضارة ووعي على خطر الصهيونية كحركة استعمارية متخصصة بالعداء للعرب تريد كل شيء من أمة واحدة هي الأمة العربية. ولقد كان لوزن مصر الخاص داخل الأمة حساب مشرف وقديم جسّده سعد زغلول ثم جمال عبدالناصر إذ لعبت مصر بقيادة هذين الزعيمين دور القاطرة في سكة حديد المنطقة العربية، ولا سيما في خطوة الوحدة السورية - المصرية أيام جمال عبدالناصر وشكري القوتلي إذ تبين أن ايجاد إسرائيل عزز عند الأحرار النزوع الى الوحدة بين الشق الآسيوي والشق الأفريقي من الأمة العربية، وهي حقيقة أربكت الاستعمار. إن الهزائم لا تُنسى في الذاكرة ولكن الانتصارات أيضاً يجب أن لا تُنسى لأنها طريق أمتنا الى المستقبل. كان العقل السياسي اللبناني يرى نفسه باستمرار أقرب الى العقل السياسي المصري، منه الى العقل السياسي العراقي مثلما كان كثير التركيز على الجانب الوحدوي من التطلعات الوطنية أو القومية. رأى لبنان في مصر الأخ الكبير غير المستعجل الى الوحدات، ومغلباً الجانب الحضاري من الهموم الوطنية على غيره، فأنشأ لبنان علاقة أخوية مع مصر، فالبحر الأبيض المتوسط يجمع ولا يفرق، والصداقة مع فرنسا مرحب بها في البلدين، والديمقراطية كانت معتمدة في مصر ومن مصر منذ زمن، وهو المطلوب للبلد اللبناني المتعدد والمفتوح على الغرب، وقد كانت فرنسا القوية في التقريب من عوامل الجمع. لكأن العلاقة اللبنانية - المصرية كانت مطلوبة لتحد من غرور صهيوني، خافت الدول العربية على مصالحها من أنيابه إذا هو شعر بقدرته على التفرد بالقرار في مسيرة المنطقة، مع ما سينتج حتماً عن ذلك من تخريب العلاقة الغربية بدول المنطقة، وبالسعودية والعراق ومصر كافة، فضلاً عن أن العروبة وهي الأساس الذي تقوم عليه جامعة الدول العربية ضرورية للحد من سطوة شيوعية عالمية منتصرة على هتلر وموسوليني. فضّل الغربيون نصراً للعروبة في إنشاء جامعة الدول العربية على إفساح المجال للشيوعية بقمع الفكر القومي العربي، وهكذا نشأت جامعة الدول العربية وبقي على العرب أن يسألوا الى أي درجة كان ذلك نصراً للعروبة وللأمة العربية لا للمجموعة الحاكمية في البلاد العربية فقط؟! ليبقى الراجح عند الرأي العام العربي وعند النخب العربية أن كل ما أُنجز في تلك المرحلة التاريخية زاد من وزن الدول العربية والشعوب العربية والثقافة العربية إذ لم يبقَ في العالم جهة دولية ذات وزن تعتبر من مصلحتها أو من قدرتها إسقاط العرب والعروبة من حساباتها، فالعرب أقوياء في آسيا وفي أفريقيا وفي حساب كل القوى القيادية في العالم. وإذا كانت الصهيونية قد استطاعت أن تقتنص حصة لها في فلسطين، فذلك بسبب التحالف الدولي الذي جمع بين الدول الاستعمارية والشيوعية الدولية في الحرب ضد هتلر، وكان العرب وقضاياهم هما الجهة دافعة الثمن. ولكن كل ذلك يبقى غير ثابت بل عابراً بالمستوى التاريخي، فالعرب كشعوب والعروبة كحضارة واتجاه هما شيء أساسي في حسابات آسيا وأفريقيا وحسابات الدول صاحبة القرار في العالم. وقد أثبتت الأيام أن لا أحد يملك وحدة القرار العالمي، وأن العروبة غير قابلة للاسقاط من الحسابات الدولية إذا حرص العرب على أن يكونوا في مستوى العروبة كقضية تحرر ووحدة. ولعل العرب في طليعة المتضررين وبالتالي المحذرين حكماء العالم حيثما كانوا من تفاقم النزعة المناهضة للمسلمين داخل أوروبا، وقد تفردت جريدة "السفير" اللبنانية بنشر رسالة نموذجية في العداء للاسلام والمسلمين دبجها إرهابي من أوسلو مؤيد بتطرف شديد للصهيونية داعياً اليمين الأوروبي الى تطوير مناصرته لنتنياهو بارساء تحالف أوروبي - صهيوني يكون حجر الزاوية في بناء تفاهم مؤسساتي دائم بين الطرفين باعتبار أوروبا كانت وما زالت مهد المناصرة الدولية لاسرائيل، ومهد التحرر التاريخي من اليهودية المتصهينة في الوقت نفسه، الأمر الذي لم يعرفه إلا الأوروبيون ليلحقهم من بعد الآسيويون والأفارقة، وتبقى الولاياتالمتحدة حجر الزاوية الأقوى والأدوم لاسرائيل وأحلامها التوراتية التي يتسابق في تأييدها الصهاينة ومتطرفو الإنجيليين. والواضح في النص الكيسنجري هو الشعور بالمأزق الذي تعيشه سياسة الولاياتالمتحدة الأميركية أمام كلفة تخليها عن أي طرف من الطرفين سواء الصهاينة أو العرب.