ولو سادت البساطة والذوق في تصميم منازلنا وللمهندسين دور كبير في هذا يغفله الكثير منهم - لكسب الفرد والمجتمع، الاقتصاد والوطن، المليارات من النقود التي تعتبر - إذا اجتمعت - ثروات هائلة بإمكانها إقامة مشاريع استثمارية مجدية وموفرة لفرص العمل. إن قيمة تلك التجربة المضحكة التي بطلها والد توفيق الحكيم ليست بقدر ما فيها من إمتاع وضحك، وأنا شخصياً قد أضحكتني كثيراً - وشر البلية ما يضحك - ولكن قيمتها الثمينة في توعية الإخوان الذين يريدون ترميم منازلهم، وهم كثيرون ويزيدون مع الأيام كثرة، خاصة أن كثيراً من المباني لدينا لم يتم بناؤها على ما يرام، ولم يتم عملها بإتقان، حتى إن بعضها في ترميم مستديم أو شبه مستديم، من أعمال الصيانة المستمرة، إلى الإضافة والتعديل، وإلى ما يجدّ من اقتراحات وتفكير، وما يظهر من محاكاة وتقليد، بل إن مبانينا الجديدة جداً كثير منها خليطٌ غريبٌ من المدارس المعمارية «الموضات» ومحاكاة الآخرين حتى أصبح بعضها يختلط فيه الحابل بالنابل والجميل بالقبيح، فتصبح بلا تناسق ولا روح ولو أُنفق عليها الملايين وزُيِّنت بالحجر والرخام والذهب والكريستال اللماع، كل هذه الأمور الباذخة ليست القول الفصل في جمال المبنى وكلها لا تُعطيه روحاً ولا شخصية جذابة ولا تريح الساكنين، ولا الناظرين، ليس بالمال وحده يُشترى الذوق، وليس بالمال وحده يُصْنَعُ الجمال، وليس بتعقيد الواجهات وتنافر البروزات يكون العمل الممتع والمبنى المريح للنظر، البساطة المدروسة والمعتمدة على التناسق والذوق أهم ألف مرة من مجرد البذخ ورصف الغالي في كل زاوية وكل ركن من واجهة وصرف الألوف على كل متر. ولو سادت البساطة والذوق في تصميم منازلنا وللمهندسين دور كبير في هذا يغفله الكثير منهم - لكسب الفرد والمجتمع، الاقتصاد والوطن، المليارات من النقود التي تعتبر - إذا اجتمعت - ثروات هائلة بإمكانها إقامة مشاريع استثمارية مجدية وموفرة لفرص العمل، وبإمكان حتى صاحب الدخل المحدود استثمار ما يوفره من تكاليف البناء فيما ينفعه هو وأولاده، ويُحسن أن تسود في المجتمع فلسفة عمارة تقوم على البساطة والذوق لا على البذخ والهدر كما هو حاصل الآن عند الكثيرين.. وللمهندسين لدينا دور أساسي في سيادة هذا المفهوم الطيب لدى الناس، ولكن كثيراً من المهندسين لدينا - إن لم يكن أكثرهم - لم يقوموا بهذا الدور، بل إن كثيراً منهم يتنافسون في التضخيم والتفخيم والتعقيد أيضاً، وكل هذا يدفعه الذي يعمر منزله وبالتالي يدفعه المجتمع كله من اقتصاده ومستقبله، ولو أن إخواننا المهندسين قدموا نماذج مبسطة عمادها الذوق بأقل تكلفة لكسب الجميع.. لقد فرحنا كثيراً بالمخططات الجميلة والمدروسة التي تبنتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، بحيث تحقق هذا المخططات - وقد انتشرت الآن - الوظائف المطلوبة في البيت السعودي بشكل مدروس بعناية، لكي يكون: أكثر ذوقا.. وأقل تكلفة. وملبياً لحاجات الأسر المختلفة، فإن تلك المخططات عديدة ومختلفة المساحات ولكنها تعتمد الذوق والبساطة وتستفيد من (هندسة القيمة) وهذا أمر حيوي يقلل - مستقبلاً - عمليات الترميم المنتشرة لدينا، حيث لا يكاد الآن حي صغير من عدة حاويات لجمع ما تم تكسيره وهبده في دوامة الترميم! ٭٭٭ لقد عرضنا في القسم الأول مقاطع من تجربة والد توفيق الحكيم في ترميم منزله، واستخرجنا العبرة من تلك المقاطع ما أمكن، وسوف نذكر الآن مقاطع أخرى من تلك التجربة، تجربة ترميم منزل واحد ولكنه واسع - حيث استغرقت سنوات، واستنزفت مال الرجل وجهده حتى النهاية! في البدء كيف اشترى والد توفيق الحكيم هذا المنزل المحتاج لترميم؟ يقول توفيق الحكيم: «رأت والدتي أن يكون لها مستقر دائم في بلدها الاسكندرية، فلما صح عزمها على ذلك انطلق والدي خلف السماسرة للبحث عن المنزل المناسب .. وانتهى بهما الأمر إلى موقف الاختيار بين منزلين كانا معروضين للبيع بنفس الثمن وكانت لهما تقريباً نفس المساحة: 1- البيت الأول كان يشرف على البحر مباشرة ولكن حديقته - على اتساعها - لم ينبت فيها غير الحشائش وبعض الأزهار ولم تُزرع فيها فاكهة لقربها من الماء المالح. 2- أما البيت الثاني فلبعده عن البحر قد ازدهرت حديقته المتسعة وأثمرت فيها الفاكهة والخُضَر والنخيل بأنواعها، ولكن خلفه حارة تُسمَّى «عزبة غبريال» غاصة بالعشش والقذارة وصخب الأطفال المشردين في حاراتها، مما سبب لأهلي فيما بعد متاعب كثيرة طول حياتهم لأنهم اختاروا هذا البيت!.. لقد أعمتهم ثمار البرتقال الحمراء فوق الشجر عن موقع المنزل السيئ الذي لم يزده المستقبل إلا سوءً..! أما المنزل المطل على البحر فقد كان هو صاحب المستقبل السعيد.. ولو أنهما اختاراه لأصبحنا من الأثرياء.. ولكن من كان يظن في ذلك الوقت أنه سيُنْشأ أمامه «كورنيش».. وأن هذا «الكورنيش» سيجعل للأراضي والمنازل المطلة عليه هذه القيمة الكبرى.. لقد قال والدي للسماسرة عندما عرضوا عليه هذا المنزل: - هل نحن مجانين حتى نشتري منزلاً يطل على البحر القَفْر؟!.. ولكنه قبل أن يموت بعام أدرك الحقيقة وقال آسفاً بمرارة: - ليتنا كنا مجانين!!» ٭٭٭ قلت: ذكرني هذا الكلام بما كان عندنا أول الطفرة، حين هرع الأذكياء لشراء الأراضي في شمال الرياض وكانت قفراً، وقال الآخرون ممن لم يشتروا: هل نحن مجانين حتى نشتري في البر؟! .. وكانوا يظنون أنفسهم ذوي عقول تزن الجبال رزانة!! ولكن إن هي إلا سنين قليلة جداً حتى انجلى الأمر وبان من هو العاقل، وقديماً قال الشاعر: سوف ترى إذا انجلى الغبارُ أَفَرَسٌ تحتَكَ أم حِمارُ!! ٭٭٭ وقد ذكرنا في القسم الأول من المقال أن أهل توفيق الحكيم - كما روى - بدأوا في ترميم هذا البيت الكبير القديم وهم فيه ساكنون! وأن الترميم استغرق عدداً من السنين! وأن العمال سكنوا معهم في ملحق البيت ولم يكتفوا بذلك بل صار يزورهم في الملحق أصدقاؤهم وأهلهم والضيوف! وأنهم كان ينزل لهم الأكل من أهل الحكيم، وأنهم صاروا يقترحون ما يطبخ أهل البيت ويأمرون! ويطلبون أن يُخَلّل لهم الخيار والفلفل والطرشي! ويشرحون لأهل البيت الطريقة التي يفضلونها في تخليل «الطرشي»! وأن هؤلاء العمال زرعوا جزءاً من الحديقة بالفجل والجرجير والكراث ليأكلوه سلطة طازجة! ثم يقول توفيق الحكيم: كانوا - أي هؤلاء العمال - متمتعين بهذه الحياة الناعمة!! مقيمين عندنا إقامة دائمة!! «وقد أصبحت الحياة في بيتنا بالنسبة إليَّ وإلى أخي الأصغر لا تُطاق، من الحجرات التي بلا حيطان والنوافذ التي بلا زجاج وضجَّة الخَبْط والهبد فوق رؤوسنا ومن تحت أرجلنا!! وكأني بوالدي قد أصبح أخيراً يجد متعته وهوايته الكبرى في حكاية البناء هذه!! ويظهر أنه اعتقد حقاً أنه لا ينقصه شيء في شؤون الهندسة والمعمار!! كان والدي - وقتها - رئيساً لمحكمة الاسكندرية فكان إذا عاد بعد حضور الجلسة لم يتجه إلى الغداء وهو المُتْعَب المنهك بل يتجه مباشرة إلى البنائين والنجارين ليرى ماذا صنعوا وهل نفذوا تعليماته التي شرحها لهم شرحاً وافياً في الصباح قبل ذهابه إلى عمله! تلك كانت عادته: يجمع البنائين والنجارين والمبيضين أمامه كل صباح ويشرح لهم ما هم صانعون في يومهم! ويسمي ذلك: (الدرس)!! ولا بد أن يدخل هذا الدرس في رؤوسهم!.. موضحاً لهم ما يسميه أيضاً: (جدول الأعمال)!! وكان لا يتركهم إلا بعد أن يسألهم بكل دقة: - هل حفظتم الدرس؟!! فيجيبون جميعاً: حَفظْناه!! فيؤكد عليهم: - وجدول الأعمال مفهوم؟! فيقولون كلهمم: مفهوم!! ولا يكتفي بذلك فقد كان من عادته عند إصدار أي أمر أو أي تعلميات لأي شخص أن يطالبه بإعادة المطلوب بنصه منعاً للبس أو سوء الفهم.. فلما سألهم: أعيدوا عليّ ماذا قلت!! وأجابوا: قلتَ كيتَ وكيتَ! مضى مطمئناً، فإذا عاد من عمله قبيل العصر سمعنا منه الصخب والصياح والتعنيف!! وقوله إن هؤلاء البنائين والمبيضين حمير ولم يفهموا حرفاً مما شرح!! وينزل بيديه على ما بنوه هدماً وبقدميه ركلاً!! ويصيح: هُدُّوا حالاً! كل هذا لا بدَّ من هدمه!.. شغل غلط في غلط!.. وكان يقيس الحيطان بعصاه التي يحملها دائماً بين يديه! ولا يلجأ إلى القياس بالمتر! فإذا عارضه أحد البنائين وقال له: قس بالمتر يا سعادة البك.. المتر موجود!! صاح به: عصاي أضبط من هذا المتر!!.. وبلغ به الاهتمام بالهندسة أن صار يمشي معي أحياناً في الشارع فإذا بي أراه يقف فجأة أمام أحد المنازل ويقول لي: انتظر حتى أقيس واجهة هذا البيت!!!.. ويشرع في القياس بعصاه!!.. فإذا سألته «لمَ ذلك؟!! هل نحن سنشتريه؟!» قال: «أبداً، مجرد معرفة!!!».. وأحياناً نسير في شارع من الشوارع نتحدث في شؤون هامة وقتئذ، فإذا هو يقطع الحديث ويلتفت نحوي سائلاً: «تظن يطلع كم متر عرض هذا الشارع؟!!..» ولا ينتظر مني جواباً بل يرفع عصاه ويأخذ في قياس عرض الشارع!! وأحمد الله في سري أن الشارع خال من المارّة!! كان والدي على الرغم من كل هذه التصرفات الغريبة يملك مزية لم أرثها عنه مع الأسف! وهي حرصه على التغلغل في التفصيلات الدقيقة! فهو يعرف بالضبط كم طوبة تلزم لبناء حجرة كذا متراً في كذا متر وكم ليلة تلزم لزراعة كذا فداناً من البرسيم!! على أن والدي بمعلوماته الغزيرة في أدق تفاصيل الأشياء ما أن يقدم على تنفيذ مشروع فكَّر فيه حتى تبدأ الخيبة المضحكة!! إنّ العلم عنده شيء والتنفيذ شيء آخر! كاد ينتهي البناء في المنزل وتم كل شيء بعد مضي وقت طويل وأخذ البناءون والنجَّارون والمبيضون المقيمون يعدون عدتهم للرحيل وينهون عهد الاحتلال!! وإذا بخاطر يخطر لأهلي: لاحظوا أن بعض المنازل العالية تكشف حديقتنا من الخلف فقالوا: نسد عليهم! نبني حائطاً!.. وعاد العمال فوراً! فلما بني الحائط قالوا: لماذا لا نتم هذا الحائط بحائط آخر أمامه ونسقفه فينتج من ذلك جناح قائم بذاته! فلما تم بناء الجناح قالوا: حبذا لو وصلناه بالمنزل الأصلي بواسطة جسر!! وتم ذلك فنظروا وقالوا: لماذا نترك أسفل الجناح مكشوفاً لتراب الحديقة لا بد من رصيف يفصل بين جداره والرمل والتراب، وتم بناء الرصيف! وكان طويلاً رصفوه كله ببلاط تكلَّف مبالغ وأصبح منظره وهو مرصوف في طوله وامتداده كأنه أُعد للعبة الانزلاق!.. وتلك أيضاً كانت من عجائبهما في البناء! أظن إلى هنا وكان ينبغي أن ينهض العمال إلى حزم أمتعتهم ليرحلوا، وإذا أهلي يفكرون في توفير سماد للحديقة الكبيرة، وجاءتهم الفكرة النيِّرة: أن يشتروا حصاناً لاستخدام روثه سماداً!! وينفع في المواصلات!!.. معقول ولكن أين يقيم الحصان؟! لا بد من بناء اسطبل! لكن هل يبنى الإسطبل كبقية الاسطبلات التي خلقها الله!.. كلا! .. لا بد من تصميم مبتكر للمهندس العبقري الذي هو أبي! وفعلاً أمر ببناء اسطبل عجيب الشكل: يتكون من ثلاثة طوابق: الأعلى لسكن الحوذي، والأوسط للحصان، والأسفل للروث المتخلف عن الحصان ينزل منه بواسطة فتحة!! وكان والدي مزهواً بهذه الفكرة الرائعة! وحث البنائين وقامت الطوابق يعلو بعضها بعض! وظل هذا البناء قائماً شامخاً طوال الأعوام لم يسكنه قط حوذي ولا حصان!! فقد خطر لوالدتي هذه المرة أن تنشئ طابقاً إضافياً فوق المنزلي الأصلي! وما أن سافر والدي متغيباً في عمل بالقاهرة حتى قامت هي بالتنفيذ! وما دام فن العمارة بهذه الطريقة فلماذا لا تُسابق والدي في المضمار!! وفعلاً أصدرت الأوامر لفرقة البنائين، وما أن عاد والدي من رحلته ووجد الطابق الجديد بدأ فيه حتى شمر هو أيضاً عن ساعده! ونشط من جديد يعطي «الدرس» ويحدد للجميع «جدول الأعمال» ويهدم بالليل ما بنوه بالنهار!!» ا.ه بتصرف يسير.