أجل، لقد عادت ليبيا لأبنائها. وانتهى عهد معمر القذافي، الذي اختزل الوطن في شخصه، وأهدر الموارد، وأضاع الفرص. إن أمام ليبيا اليوم فرصة تاريخية لإعادة تشكيل منظومة خياراتها الوطنية الشاملة، على النحو الذي يحقق تطلعات شعبها، ويُترجم طموحاته في بناء دولة العدالة الاجتماعية. إن الإعلان الدستوري، الصادر في الثالث من آب/ أغسطس 2011، عن المجلس الوطني الانتقالي المؤقت، قد حمل الكثير من المعاني الجميلة، التي يعني الأخذ بها وضع ليبيا على طريق الدولة المدنية العصرية. إن هناك اليوم الكثير من المهام التي تنتظر ليبيا الجديدة، كي تعبر المرحلة الانتقالية بأمان، وتبدأ مسيرة بناء الدولة، التي لم ترث مؤسسات متماسكة. أو لنقل ورثت حالة من الفوضى على مستوى التنظيم الإداري. إذا بدأنا الحديث بالجانب الإداري والسياسي، يُمكن القول إن المجتمع الدولي، بكافة قواه الحية والفاعلة، يتطلع إلى نموذج جديد لليبيا ما بعد القذافي، نموذج ينهي سنوات من العهد الشمولي، الذي لا مكان فيه للمجتمع المدني. تقول المادة (2) من قرار مجلس الأمن الدولي الرقم (2009)، الصادر في 16 أيلول/ سبتمبر 2011، "إن المجلس يتطلّع "لإنشاء حكومة مؤقتة شاملة، وممثِّلة للجميع في ليبيا، ويشدد على ضرورة أن تكون الفترة الانتقالية مرتكزة على الالتزام بالديمقراطية والحكم الرشيد، وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان". العدالة الانتقالية مفهوم حديث نسبياً، بدأ يأخذ مكاناً بارزاً على الصعيد الدولي، اعتباراً من مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهناك مرجعيات دولية أخذت على عاتقها بلورة مقاربات متقدمة لهذا المفهوم، وقد نجحت في ذلك. ويُمكن للأشقاء الليبيين الإفادة من هذه المقاربات، كي لا ينطلقوا من نقطة الصفر. وتطالب الفقرة (ج) من المادة (4) من القرار ذاته "بضمان وجود عملية سياسية تشاورية شاملة، بهدف التوصل إلى اتفاق بشأن وضع دستور، وإجراء انتخابات حرة ونزيهة". وأشارت المادة (12) من القرار إلى أن دور الأممالمتحدة في ليبيا، سوف يتمثل في مساعدة السلطات الجديدة، على تحقيق عدة أهداف من بينها: - استعادة الأمن والنظام العامين وتعزيز سيادة القانون. - إجراء حوار سياسي يضم الجميع، وتعزيز المصالحة الوطنية، والشروع في عملية وضع الدستور والعملية الانتخابية. - بسط سلطة الدولة، بوسائل منها تعزيز المؤسسات الناشئة الخاضعة للمساءلة، واستئناف الخدمات العامة. - تعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، لاسيما بالنسبة لمن ينتمون إلى الفئات الضعيفة، ودعم العدالة الانتقالية. في مقاربة الشق الأمني، يُمكن القول إن ليبيا لا تبدو في وارد التعرض لحالة من انفلات النظام العام، أو الفوضى الواسعة. ومن ناحية أخرى، فإن مجموعات العنف العابرة للدول لا تمتلك أرضية فكرية أو اجتماعية في الساحة الليبية. وهذا أمر مفهوم على أي حال. وعلى الرغم من ذلك، فإن أبرز المخاوف المثارة اليوم هي تلك المتعلقة بإمكانية حدوث عمليات انتقام، تقود إلى زعزعة الوحدة الوطنية. ويجب التشديد هنا على حقيقة أن المصالحة الوطنية يجب أن تكون هدفاً أسمى لكافة الليبيين على اختلاف مواقعهم الفكرية والاجتماعية. وعلى الدولة الليبية، وقوى المجتمع المدني، أن تدرسا تجارب دول العالم في تحقيق المصالحة الوطنية. وخاصة تجارب جمهورية جنوب أفريقيا، وإندونيسيا والفلبين. بل وحتى تجربة كمبوديا، التي شهدت واحدة من أكبر عمليات التصفية الجسدية ضد المدنيين على أيدي سلطة حاكمة، في العصر الحديث. إن المصالحة الوطنية يجب أن تجري بموازاة البحث عن رؤية واضحة لما يُعرف اليوم بالعدالة الانتقالية، على أن تكون هذه الرؤية منسجمة مع خصوصية المجتمع الليبي. والعدالة الانتقالية مفهوم حديث نسبياً، بدأ يأخذ مكاناً بارزاً على الصعيد الدولي، اعتباراً من مطلع تسعينيات القرن الماضي. وهناك مرجعيات دولية أخذت على عاتقها بلورة مقاربات متقدمة لهذا المفهوم، وقد نجحت في ذلك. ويُمكن للأشقاء الليبيين الإفادة من هذه المقاربات، كي لا ينطلقوا من نقطة الصفر. على صعيد مستقبل المؤسسة العسكرية الليبية، يمكن القول الآن إن ليبيا الجديدة لابد أن تصبح ذات جيش خاضع لإدارة مدنية. وعليها أن تحدد مهام هذا الجيش على النحو المتعارف عليه دولياً. وهذا يتطلب، ضمن أمور عدة، تغييراً في المفاهيم، وفي البنى التنظيمية السائدة، وكذلك في اتجاهات وخيارات التسلّح الوطني. وفي السياق ذاته، فإن فاتورة الإنفاق العسكري يجب خفضها إلى الحد الأدنى الممكن، كي يجري توجيه الموارد المالية إلى خدمة مشاريع التنمية. على صعيد الآفاق الاقتصادية للدولة الليبية، يُمكن القول إن تنويع قاعدة الاقتصاد الوطني لابد أن يكون هدفاً بعيد المدى للمخططين الليبيين. وبالطبع، فإن عملية كهذه تُعد ضرورة لكافة الدول والأمم، بغض النظر عن درجة تطوّرها الاقتصادي. بيد أنه فيما يرتبط بليبيا، فإن الأمر يبدو أكثر ضرورة، وذلك بلحاظ استنادها إلى مورد وحيد ناضب، هو النفط. وحتى لا يكون حديثناً معلقاً في الهواء، يُمكننا القول، بشيء من التحديد، إن أحد الخيارات المتاحة لليبيا اليوم، يتمثل في إطلاق مستوى متقدم وعريض من الصناعات البتروكيماوية الموجهة للتصدير. وإن حقيقة كون ليبيا دولة منتجة للغاز الطبيعي، تجعل من هذا الخيار خياراً واقعياً، وقادراً على المنافسة في السوق الدولية بامتياز. ويُمكن أن تستفيد ليبيا من التجربة الخليجية في هذا الشأن؛ حيث أضحت المنتجات البتروكيماوية الخليجية ذات قدرة تنافسية عالية، واحتلت مكاناً مرموقاً على صعيد عالمي. ويُمكن للأشقاء الليبيين الحضور إلى الخليج والاطلاع عن كثب على هذه التجربة. وسيجدون من الخليجيين أفضل صور الدعم والتعاون. وفي إطاره العام، كان الاقتصاد الليبي قد حقق نمواً قدره 3.3% خلال العام 2010 ، بعد أن سجل نمواً سالباً عام 2009، بلغ (- 7 %). وقد بلغ الناتج القومي الإجمالي الليبي 89.03 مليار دولار عام 2010 (77.91 مليار دولار بالصرف الرسمي). وكان هذا الناتج بلغ 86.19 مليار دولار عام 2009، و 86.77 مليار دولار عام 2008. وعلى صعيد الاستثمارات الخارجية المباشرة في ليبيا، لم تتجاوز هذه الاستثمارات 15.32 مليار دولار، كما هي مسجلة في نهاية العام 2010. ويعد هذا الرقم متواضعاً للغاية، قياساً بما تتمتع به البلاد من مصادر طبيعية كبيرة، وموقع استراتيجي متقدم، ومثالي لأي مشروع استثماري يستهدف الأسواق العالمية، بما في ذلك أوروبا وأفريقيا والوطن العربي. وبحسب اتحاد الأعمال الفرنسي، من المنتظر أن تتيح ليبيا الجديدة فرصاً استثمارية بقيمة 200 مليار دولار خلال السنوات العشر القادمة. ووفقاً لمؤشرات مطلع العام 2010، يبلغ الاحتياطي النفطي الليبي المؤكد 47 مليار برميل. وتحتل ليبيا على هذا الصعيد المرتبة التاسعة عالمياً. ويفوق الاحتياطي الليبي احتياطي أربع دول نفطية مجتمعة هي: أنغولا والجزائر والمكسيك وأذربيجان. وتنتج ليبيا حالياً ما يُقدر بنحو 430 ألف برميل يومياً. وهي زيادة من الصفر تقريباً عندما كانت الأحداث في أشدها. وقد يتضاعف إنتاج البلاد الحالي بسرعة نسبية. وجاءت الزيادة الأخيرة بعد نجاح استئناف الإنتاج من حقلين آخرين في شرق البلاد، تديرهما شركة الخليج العربي للنفط، التي تتخذ من بنغازي مقراً. وفي قراره الرقم (2009)، خفف مجلس الأمن الدولي من العقوبات المفروضة على ليبيا، بما فيها تلك المفروضة على المؤسسة الوطنية للنفط والبنك المركزي، وذلك بهدف تمكين المؤسستين من استئناف نشاطهما، في أقرب فرصة ممكنة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الإفراج عن الأصول المجمدة للمؤسسات الليبية سيظل في حاجة إلى موافقة خاصة من لجنة العقوبات التابعة للمجلس، المعنية بحالة ليبيا. وتسعى ليبيا للإفراج عن حوالي 150 مليار دولار، هي عبارة عن أصول مجمدة، كانت متاحة لنظام معمر القذافي في مختلف أنحاء العالم. وكانت وزارة الخزانة الأميركية بدأت بالإفراج عن نحو 37 مليار دولار أصولاً مجمدة، جعلتها متاحة للمجلس الوطني الانتقالي المؤقت. ومن ناحيته، سمح الاتحاد الأوروبي، في 22 أيلول/ سبتمبر الماضي، بتحرير الأصول الليبية المجمدة "لتلبية الاحتياجات الإنسانية والمدنية" للشعب الليبي. وفي سياق موازٍ، يرى خبراء بأنه سوف يتعين على السلطات الليبية الجديدة بذل الكثير من الجهد للعثور على أصول ومليارات الدولارات السائلة، التي أخفاها معمر القذافي في دول ومناطق مختلفة من العالم. وستكون هناك عراقيل قانونية لاستعادة هذه الأصول والأموال كاملة. ويرى خبراء ماليون أن القذافي قام، على الأرجح، بنقل مبالغ كبيرة إلى حسابات، بأسماء وهمية أو أرقام سرية، أو صناديق أمانات، أو ودائع مكدسة بالعملات. وما يُمكن قوله خلاصة، هو أن ليبيا قد بدأت اليوم مساراً جديداً في تاريخها، مساراً سوف يُعيد رسم صورتها في الساحة الدولية، بموازاة إعادتها إنتاج منظومة خياراتها الوطنية الشاملة. وإن مستقبل ليبيا واعدٌ دون ريب، مهما بدت في الأفق من تحديات أو صعاب، يفرضها الطابع الانتقالي للمرحلة الراهنة. إن على المجتمع الدولي، وخاصة الدول العربية، تقديم مختلف أشكال الدعم الدبلوماسي والإداري والفني للأشقاء الليبيين، ومدهم بكل ما يُعينهم على مهمة بناء ليبيا الجديدة..