لم تكن متابعتي للإعلام الفضائي متابعة شاملة ؛ بحيث أعي حجم طغيان طوفان التطرف التكفيري على عالم الإعلام الفضائي . كنت قد حددت عددا محدودا ومتنوعا منه ، ومحوت ما سوى هذا العدد المحدود ؛ كي أنجو بنفسي من أن تستهلكني المتابعة لكل ( دكاكين ) الفضاء . لا بد من المتابعة ، ولا بد في الوقت نفسه من رسم حدود لهذه المتابعة . ولهذا كان من الطبيعي أن يكون ما أبقيته على جهاز الاستقبال لدي كفيلا برصد الخطوط العريضة لأهم أشكال الحراك الديني والثقافي والسياسي . أي أنني كنت أحاول الظفر بعمومية الرؤية ، كنت أحاول أن أرصد الخطاب التقدمي التنويري ، في الوقت الذي أحاول فيه رصد الخطاب الديني ( الوسطي ! ) ، فضلا عن الخطاب الديني المتطرف المتمثل في قنوات الذكور (= تغييب المرأة ) والذي يحتاج لمزيد من الرصد والتحليل . ومع إلزامي لنفسي بالمتابعة للخطوط العريضة في هذا الحراك الإعلامي الواسع ، ومع أنني أعرض عمداً عن التفاصيل حتى لا تستهلكني ، إلا أنه كان يفوتني الكثير مما يجب رصده ؛ بحكم أنني حددت ألا تتجاوز متابعتي الإعلام الفضائي ساعتين يوميا . ولولا أن كثيرا من الأصدقاء والزملاء والمُهتمين بالشأن العام ، بل والمختلفين جذريا معي ، يُنبهونني برسائلهم الجوالية الأخوية إلى أي جديد أو مختلف أو غريب أو صادم أو متصادم ؛ لحكمت على نفسي بأنني بمعزل عن الوعي حتى بالخطوط العريضة لهذا الإعلام الفضائي الصاخب . مثلا ؛ كنت أتابع التطرف التكفيري لدينا من خلال قناتين من قنوات الذكور ( = قنوات وأد المرأة ) العنصرية المتطرفة . وبهذا أرصد حاله وتحولاته من أهم تجلياته في الواقع . أنا على يقين من أن الحراك الإعلامي الذي يسحق نصف المجتمع ( = المرأة ) ويمارس تغييبه بالكامل هو أقسى أنواع الإعلام إيغالا في التطرف بل وفي التوحش . الزعيم النازي : هتلر ، والذي هو المثل الأعلى في العنصرية المعاصرة ، لم يكن يرى بعد استيلائه على معظم أوروبا أنه يجب سحق نصف المجتمع الأوروبي . مجموع من كان يرى هتلر وجوب نفيه أو سحقه لا يتعدى 5% من جميع سكان القارة الأوروبية . بينما المتطرفون لدينا ، وكما يشف لنا موقفهم من المرأة ، عنصريون جدا ؛ إلى درجة أنهم يرون نفي وسحق وتغييب نصف البشرية ، أي أنهم أشد عنصرية من الزعيم النازي بعشرة أضعاف على الأقل . والأبلغ من كل هذا في الدلالة على العنصرية المتوحشة ، أن الشريحة المسحوقة ( = الشريحة الأنثوية ) ليست شريحة معزولة أو منفصلة ، بل هي شريحة من الداخل ، أي أن نفيها وسحقها يحتاج لأن تكون ممارسة شاملة ، بل وممارسة من الفاعل / العنصري في مواجهة أقرب الأقربين ، بل كلما ازدادت درجة القرابة زاد النفس العنصري توهجاً واتسعت دائرة النفي . أي أنها كرؤية وكممارسة عنصرية ، تغمر الذات بأقسى المعاني اللاإنسانية ، وتضعها في قمة التوحش العنصري الذي يقصر عنه خيال أعتى العنصريين ( = النازيون مثلا ) . إن هذا التعنصر المُغالي هو ما يكشف عن مستوى التطرف في مثل هذه القنوات ، إنه مؤشر يقيس مستوى التطرف داخل جسدنا الاجتماعي . وهو مؤشر رغم أهميته يغيب عن رصده وتحليله أكثر المراقبين ، الذين ربما تصور بعضهم أنه ( = الوأد المعنوي ) خيار طبيعي ! . كثيرون يتجاهلون أن الأقسى من الاعتداء والظلم والعنصرية هو تطبيع الاعتداء والظلم والعنصرية . لا يوجد إنسان عنصري يعترف أنه يمارس الاعتداء والظلم . لقد كان النازيون وهم يرمون بالبشر في أفران الغاز أو في معتقلات الموت ، يعتقدون أنهم يمارسون عملا طبيعيا ، بل ويتصورون أنهم يساعدون الطبيعة في الحفاظ على النوع الأرقى والأنقى ، وأن هذا هو مقتضى قوانين البيولوجيا الطبيعية ( وليس أحكم من الطبيعة ؛ كما يؤكدون !) كما أنه من حيث جذره التصوري العام مدعوم بنظرية الانتخاب الطبيعي . ولهذا فهم ، كما هو حال المتطرفين لدينا ، يرون أنهم رغم عنصريتهم بشر أسوياء . المتطرفون لدينا يسحقون نصف المجتمع ( = المرأة ) ويزعمون كذبا أن هذه هي إرادة الله ، وأنهم لم يفعلوا سوى تنفيذ هذه الإرادة في الواقع . وكذلك النازيون يسحقون بعض المجتمع (= اليهود والغجر والضعفاء والعجزة ...إلخ ) ويزعمون كذبا أن هذه إرادة الطبيعة ، وألا أحد أحكم من الطبيعة ، وأنهم لا يفعلون أكثر من تنفيذ إرادة الطبيعة ، ومساعدتها على الوصول إلى غاياتها التي تدعم في النهاية إرادة الحياة ! . . إن السلوك العنصري المتوحش واحد رغم اختلاف ( يافطات ) المشروعية التي يمارس العدوان من خلالها . لهذا ، كنت أرى أن ( قنوات الوأد الفضائية ) هي من أهم المؤشرات التي أقرأ من خلالها حراك المتطرفين . ما يحدث في الإعلام المباشر يختلف عما يحدث في عالم الكتب . أعرف المتطرفين من خلال مئات الكتب التي تؤسس للتكفير في المنظومة التقليدية . لكن الكتب تأخذ وقتا في تحولاتها وفي تدعيم تأثيراتها في الواقع . أقرأ نتاج المتطرفين التكفيريين وأعرف كيف يفكرون ؛ من خلال تراثهم المكتوب . لكن هذا التراث ، حتى ما كتب منه حديثا ، لا يكشف عن حراكهم الآني ، كما لا يكشف عن المراوغة التكتيكية لهذا الخطاب . إعلامهم الفضائي المتصارع مع إحداثيات الواقع وجدل الوقائع هو الكاشف / الفاضح عن موقفهم في الزمان والمكان . ولهذا لا بد من تحليل شامل وعميق لما يتم بثه من خلال ( قنوات الوأد ) ، وألا يتم الاكتفاء بالرصد المباشر ، فبعض الأطروحات لا بد من إرجاعها إلى أصولها في المنظومة التقليدية ؛ حتى يتم الوعي بحمولتها التكفيرية التي تخفى على كثير من المشاهدين . لقد كنت أرى أن قنوات الوأد هي مجرد عرض لمرض ؛ مقارنة بنسبتها في الإعلام الفضائي . كنت أظن أنها قليلة ومحدودة ، ولم أكن أتصور أنها استشرت في فضائنا الإعلامي كوباء كاسح ، أي أنها تجاوزت حدود المرض إلى الوباء . لم يكن لدي إطلاع إلا على ثلاث قنوات ذكورية فقط ، ولم يكن لي تتبع للجديد في هذا المجال . قبل ثلاثة أسابيع من الآن ، وبعد أن تحدثت مع بعض الأصدقاء ( الفضائيين ) عن خطورة هذه القنوات الذكورية ، أخبرني أنني غائب عن آخر التطورات في أنشطة المتطرفين الإعلامية . لقد أخبرني أنه يعرف أكثر من ثلاث عشرة قناة ذكورية خالصة الذكورية في الإعلام العربي . زوّدني بأسمائها وتردداتها . لا أنكر أنني في الساعات الأولى لمشاهدتها أصبت بالذهول التام . لساعات لم أصدق أن كل هذا التشدد والتطرف والإيحاءات ، بل والتصريحات ، بالتكفير والتبديع والتفسيق تُبثّ على مدار الساعة في فضائنا ، وبهذا الكم الهائل . وكي أستوعب حجم الكارثة التي يعكسها هذا الوباء ، تفرّغت تماما ، وأوقفت كل نشاط لي ، ولمدة يومين كاملين ؛ لمتابعة ما يجري في هذا الإعلام المتطرف المتلبس بمشروعية الخطاب الديني . لقد رأيت في هذه القنوات ما لم أتوقعه في يوم من الأيام . لقد كانت الكارثة تستعصي على التصديق بسبب ضخامتها كما وكيفا . حتى إن أول قناة ذكورية متطرفة ظهرت في الإعلام الفضائي ، أصبحت مقارنة بما عليه هذه القنوات قناة متسامحة ؛ رغم تمسكها العتيد بالشرط الذكوري .دار كثير من الأسئلة المتتابعة في ذهني الذاهل : من أين خرج كل هؤلاء ؟ ، من أين قمقم انبعث كل الزخم التقليدي النقلي الحشوي ؟ ، أين تخلّقت كل هذه الوجوه المُتجهمة الرافضة لكل نمط حياتي جديد لا ينتمي للماضي ؟ ، في أية ( حقول طالبانية ) تمت زراعة هذا العداء للعصر ولأبناء العصر ، بل وللعالم أجمع ؟ ، أين كان يعيش هؤلاء وكيف كانوا يعيشون ، وكيف هم اليوم يعيشون ، وأي مستقبل لو اقتنعت بهم شرائح عريضة من المجتمع ، أي لو اتسع حجم هذا الوباء ؟ ، كيف يستطيع المتلقي البسيط الصمود أمام هذه الترسانة الكاسحة التي يُراد لها أن تستولي على عقول الجماهير البائسة ، وما أكثر البائسين ؟ ، كيف يكتشف المتلقي طبيعة الخداع في هذا الخطاب الذي يتعمد استدماج لفظ الجلالة في كل جملة وكل عبارة ؛ كي يضمن لمقولاته نوعا من القداسة ؛ خاصة في وعي عوام المشاهدين ؟ . إنني وباستعارة لغة إخواننا المتطرفين ! لا أرى في هذا الحراك الإعلامي المنظم ( تهمة التنظيم ليست من قبلي ، بل هم يُصرّحون بضرورة تنظيم حراكهم ، وأنهم ينتمون إلى زعامات وقيادات ...إلخ ) إلا غزوا فكريا يُراد به الاستيلاء على وعي المجتمع ، وتوجيهه نحو ثقافة الكهوف . في حال الاستسلام المجتمعي ، كما هو واقع الحال للأسف ، فسيستطيع هؤلاء كسب شريحة لا يُستهان بها ، وسنجد أنفسنا بعد سنوات محدودة في قبضة ثلة من المتطرفين . ليس من الضروري لتحديد وقوع الكارثة أن نجد أنفسنا تحت تصرفهم المباشر ، وإنما يكفي أن نجد أنفسنا تحت وقع آثار خياراتهم التي نرفضها . إنهم وبمجرد أن يتسببوا في كارثة عالمية أو إقليمية ، سنجد آثارها تقع علينا بأشد مما تقع عليهم ، بحكم انفتاحنا على العالم ، العالم الذي يدعُون إلى القطيعة معه . مع مثل هذا الإعلام ، نحن على شفير الكارثة ، فقد تستطيع فتوى شاذة ، يُصدرها أحدهم ، ويدعمونها بإعلامهم ، أن تتسبب في توتر علاقاتنا مع العالم كله ، بل وقد تتسبب في أن يقف منا حتى العالم الإسلامي موقفا سلبيا ؛ لأن أدبيات هذا الخطاب المتطرف لا تقتصر على شرعنة معاداة غير المسلمين فقط ، بل هي لا تطمئن إلى ( عقيدة ) أكثر من 99% من المسلمين ، ولهذا ترميهم بالانحراف العقدي ، وتتهمهم بالابتداع والإشراك ، ومن ثمَّ تناصبهم العداء بالضرورة ؛ لأن هذا هو مقتضى عقيدة الولاء والبراء ؛ كما يزعمون . ما أقوله هنا ليس اتهاما لهم ، فهذا ما يقولون به صراحة ، ويستطيع أي أحد من المهتمين أن يرصد ذلك بمجرد إطلالة عابرة ( ولكن ناقدة ، وبوعي غير مُتدروش !) على قنواتهم الذكورية المتطرفة ، بل إنهم يفتخرون بهذا الطرح المتطرف ، ويدّعون أنه من مميزاتهم الخاصة التي تمنحهم هوية دينية خاصة ؛ غير هوية الإعلام الإسلامي المتسامح ، والذي يصنفونه على أنه إعلام مُميّع منحرف ؛ لأنه بزعمهم يتنازل عن أصول الدين ، ويقصدون بذلك : أصول دين المتطرفين . لا بد أن نفتح أعيننا بأوسع ما نستطيع على حدود هذا الواقع الأليم . يوم أن كان هذا الإعلام المتطرف ثلاث قنوات ، كان مجرد مرض ، مرض يجب علاجه . أما وقد أصبحت قنواته بالعشرات ، فهو قد انتقل من حالة المرض ( ووجود المرض حالة طبيعية ، لا يخلو منها أي مجتمع ) إلى حالة الوباء ( والوباء حالة غير طبيعية تستلزم إجراءات غير طبيعية ) الذي يستوجب إعلان حالة الطوارئ الثقافية ؛ فلا بد من تعرية هذا الإعلام الذي سيقود إلى تدمير البقية الباقية من وعي المسلمين . عندما أطالب بالتصدي لهذا الإعلام بالنقد ، بل وبالتعرية والفضح ؛ فأنا لا أطالب بمنعه أو حجبه . فمن مبدأ ليبرالي ، من حق المتطرفين إنشاء إعلامهم الخاص ، ولو كنت مسؤول تصاريح إعلامية لما منعت أي نشاط إعلامي مُعلن . فهذا هو الإعلام المتعري الذي يفضح نفسه بنفسه . ولولا هذا الإعلام المتطرف ؛ لما عرفنا حجم التأييد الذي تحظى به الفتاوى التكفيرية والطائفية . فتأييد ( الحكواتي ) في فتواه التكفيرية الطائفية مثلا ، بدا واضحا في مثل هذا الإعلام . فقد صرّحوا دون خوف أو خجل بتصويبه في تكفيره ، وإن اختلفوا في توقيت التصريح ! . إذن ، لا بد أن نفسح لهم المجال ليفضحوا أنفسهم بأنفسهم . لكن ، كل هذا لا يعني الاستسلام لهم ، كما لا يعني وضعهم خارج دائرة المساءلة الأدبية والقانونية ؛ عندما يعتدون إعلاميا على غيرهم من الطوائف والمذاهب والأفراد . من حقهم أن يمارسوا نشاطهم ، ومن حق المجتمع أن ينتقدهم وأن يحاسبهم . والحقان لا يتعارضان . وهذا هو التسامح الليبرالي الذي لا تتسع لبعضه صدور إخواننا المتطرفين .