تأكد لي بعد كل ما رأيته من جدلية علاقة الإسلام السياسي بالواقع ؛ الواقع : أشياؤه وأناسه ، أن الإسلام السياسي يُعاني أكثر من أزمة ، وأن أقساها وأشدها تأثيرا في مستقبله ، هي أزمة الضمير . قد يستطيع الإسلام السياسي بكثير من الجهد تجاوز سذاجة أطروحاته ، بل وغباء كوادره ، ولكنه لن يستطيع مهما حاول تجاوز الخروقات الأخلاقية الفظيعة التي كادت لكثرتها أن تُشكّل هويته العامة ؛ لأن الثقة قد تُستعاد على مستوى الجدارة والمهارة ، ولكنها إذا فُقِدت على مستوى الالتزام الأخلاقي ، فلا يمكن استرجاعها بحال . بالنسبة لي ، اكتملت بوضوح تام حلقات الاكتشاف مؤخرا . فبين عامي 2000و2007م ( فترة اكتشاف الموقف الأخلاقي ) اصطدمت بكثير من أبناء هذا التيار المتطرف ( الإسلام السياسي ) ورأيت مُعاينةً حجم السقوط الأخلاقي الرهيب ، ذلك السقوط الذي لا يخجلون منه ؛ ما داموا قادرين على شرعنته اعتسافا ، أو ماداموا يُمارسونه في الخفاء ، بعيدا عن أعين الرقباء . لقد رأيت بنفسي كل أنواع السقوط الأخلاقي : الكذب والسباب والشتائم والبهتان والتآمر الجليّ والسعي الحثيث للإضرار بالخصم الفكري بأية وسيلة مُمكنة ، ورأيت كيف أنهم كانوا قادرين على ممارستها براحة ضمير ، بل وشرعنتها بدعوى : الذود عن الإسلام . لقد رأيت كيف أنهم كانوا قادرين على تمويه الحقائق الأخلاقية الواضحة وقَلْبها ؛ لتخدم أغراضهم ، ورأيت كيف أنهم في المؤسسات التي لهم فيها بعض النفوذ ، يُمارسون كل أنواع الإقصاء ، وكل أنواع الإضرار : المعنوي والنفسي والمادي والبدني والوظيفي مع كل من لا يتفق مع مشروعهم المُدمّر : مشروع الإسلام السياسي ، أي مع كل من يقف من مشروعهم المدمر موقف الحياد ؛ فما بالك إذا ما حاول أحد ما فضح خبايا هذا المشروع البائس من الداخل . إن الأمر في هذا المجال أعمق وأوسع وأخطر من أن يتم تناوله في مشهد درامي عابر ، مشهد كوميدي يحكي وقائع إقصائية / تآمرية في مجال العمل التعليمي أو الخدمي . مجرد مشهد واحد ، أو حتى حلقة من نصف ساعة ، لا تكفي لإيصال رسالة حقيقية تعكس بأمانة خبايا ما يحدث في المؤسسات التي هيمن عليها مشروع الإسلام السياسي . بل إنني أعتقد أن عرض مشهد بهذا الحجم ، من شأنه أن يختصر عناصر هذا الخطر الكبير ، ويُقلل من كارثيته على مستقبل أجيال . عندما تقوم بتشخيص مرض عضال على أنه مجرد صداع عارض ، فأنت لا تفضح حقيقة المرض ؛ بقدر ما توحي بأنه بهذا الحجم الهزيل ، أي أنك توحي بأنه يمكن تفاديه بقرار يتيم . لا شك أن هذا الإيحاء بمحدودية الخطر ، سيبعث برسالة تُورِث شيئا من الاسترخاء الذي لا يمكن أن يخلق فينا إرادة اجتثاث الخطر من الجذور. صحيح أنه قد يُنبّه كثيرا من الغافلين عن تمدد أيادي هذا الإخطبوط الإرهابي ، وأنه سيُطلعهم على ( بعض ) ما يجري ، ولكنه في المقابل قد يُوقف حركة الوعي العام بهؤلاء عند هذا الحد ، أي عند حدود ما يعكسه المشهد ، بل قد يقود كثيرا من المعنيين بمكافحة هذا المرض العضال إلى الالتزام بهذا الحد المحدود . إن ما تمَّ ويتمّ عرضه في الأعمال الدرامية عن الإرهاب الصريح ، وعن تمدد نفوذ دعاة الإسلام السياسي ، عرض مختصر مبتسر ، إذ يعرضهم كأناس واضحين في حركاتهم التآمرية ، واضحين على الأقل مع مُريديهم ، بينما هم في الواقع يُديرون هذا الحراك الضخم بنظام الخلايا العنقودية . إن كثيرا ممن يتم توظيفهم في هذا المشروع لا يعرفون أنهم أعضاء عاملون في تنظيم حركي ، بل يرون أنفسهم مجرد خدم أوفياء لفكرة مثالية يُؤمنون بها أشد ما يكون الإيمان. هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فهذا العرض الدرامي المبتسر ، غالبا يتجنب كشف خبايا الدعم الناعم ، أي الأنشطة التي تضخ روحا من التقليد قد تبدو بريئة ، بل قد تبدو مضادة لمشروع التطرف ، لكنها تُؤسس في العمق لتفخيخ العقول بمشروع الإسلام السياسي ؛ لأنها تقوم بصناعة بيئة متزمتة قابلة لاحتضان التطرف ، هذا التطرف يصعب التصدي له إذا ما أصبح هو مشروع الوعي العام . وفي تقديري أن تجنب كشف هذا ، هو سبب تأخر / فشل الأنشطة الثقافية في مكافحة هذا الخطاب ، إذ كثيرا ما يتم عرض ممارسات هؤلاء باختصار كثير من هوامشها ، تلك الهوامش التي قد تكون في بعض السياقات ، أهم من المتن ذاته . وبهذا يتراءى لنا المتطرفون الحاملون لمشروع الإسلام السياسي ، وكأنهم تسللوا إلى مواقع التأثير في ليلة ظلماء ، فوجدهم الناس في الصباح الباكر قابعين على مكاتبهم يمارسون تنفيذ مخططات الإقصاء وتفخيخ عقول الأبرياء . غالبا ما يتجاهل المشهد الدرامي أن هؤلاء لا يمكن أن يصمدوا في مواقعهم ، و لا أن يفرضوا أنفسهم فيما هو متجاوز وخارق للأنظمة ؛ لو لم يكن هناك سياق اجتماعي تقليدي عاضد ، سياق قاموا بخلقه من قبل ؛ ليتمكنوا من الاتكاء عليه عندما يجدون أنفسهم في مأزق الافتضاح . إنني على يقين من أنه لولا أنواع الدعم الذي يأتي من اللوبيات ( الغفوية ) لممثليها في تلك المؤسسات التي يسعون للهيمنة عليها ؛ لكانت فضيحة أي إقصاء متعمد ، أو فضيحة تمرير أي فكرة تكفير في مثل هذا السياق المؤسسي ، أو فضيحة أي تكتلات تهدف إلى الهيمنة بتطويع الأنظمة لها ، كافية لطردهم على أسوأ حال . إذن ، لا بد أن يكون في العمل الدرامي الناقد ذاته ما يسمح بعرض كافٍ لبداية استنبات المشروع خارج المؤسسة ، وكيف تنامى وأصبح مشروعا ضخما يفرض نفوذه حتى على غير المتعاطفين معه داخل المؤسسات ، وكيف أن تلبسه بالمقدس جعله يُرعب أية ممارسة نقدية تُحاول الاقتراب من عوالمه ولو بشيء يسير عن الكشف والتجلية ، وكيف أن الهيمنة التي وصل إليها لم تحدث في شهرين أو ثلاثة ، بل في أكثر من ثلاثين سنة من النفير العام داخل منظومة التطرف والإرهاب . كي نفهم المشكلة ؛ لا بد من رؤية كل عناصر المشكلة بكل ضخامتها المرعبة في العمل الدرامي ، وإلا أصبح العمل يخدم قضية هؤلاء المتطرفين ، بدل أن يمارس دوره المحوري في فضح مشروعهم الخطير . لقد كنت شاهدا على جانب من فترة التأسيس لهذا الخطاب المتطرف . فما تم تأسيسه على طول هذه السنوات الثلاثين ، وما بني بجهود وجهاد رهيب من المؤمنين بفكرة التطرف وبضرورة ضخها في ثنايا الوعي الاجتماعي ، وما صنُع في عِدّة سياقات ، وعبر مجالات عديدة ، وقنوات تأثير مختلفة ، يحتاج الوقوف ضده لجهود ضخمة ، جهودٍ تُضارع كل هذه الجهود التي بذلها المتطرفون من حملة مشروع الإسلام السياسي . وللأسف ، لا أجد اليوم من نشطاء الخطاب المدني الذي يتعمد مكافحة أفكار المتطرفين ، ما يُوازي جهود المتطرفين في الاستنبات والتأسيس والبناء . نشطاء الخطاب المدني على تنوع أطيافهم يعتمدون على ثقافتهم الشاملة ورؤاهم المنفتحة ، وعلى وضوحهم وصدقهم وتسامح خطابهم ، وعلى قدرتهم على فضح ما في خطاب المتطرفين من ضحالة ثقافة عنف ودموية وسقوط أخلاقي وزيف ..إلخ ، أي من سلبيات ستُنفّر الناس من المشروع حال اكتشافها . كما يعتمدون على شيء من الوعد بغدٍ أفضل ؛ إذا ازدهر خطاب التنوير في الواقع . وفي ظني أن هذا لا يكفي ؛ إذ لا بد من كفاح يُوازي كفاح المتطرفين لتأسيس خطابهم في الواقع . ومع كل ما في مشروع الإسلام السياسي من خطر ماحق ، فالأمر لا يقتصر على هذه الجوانب فقط من سلوكيات أصحاب هذا المشروع ، بل هذه مجرد معالم تقود إلى معالم أخرى ، إنها أزمة تكشف عن أزمات . وستجد نفسك كلما أوغلت في التعرف على طبيعة هذا المشروع ؛ كلما كانت صدمتك بالجانب الأخلاقي منه أكبر . وهنا تبرز ضرورة أن يقرأ المعجبون بهذا المشروع المتأسلم ، وخاصة من جيل الشباب ، أفكار وسلوكيات دعاة هذا المشروع بأعلى درجات الانتباه والتيقظ . إن الجيل الجديد من المتعاطفين مع أصحاب هذا المشروع هم أقرب إلى المثالية . ولهذا ، فإني أعتقد أنهم وبمجرد اكتشافهم حجم السقوط الأخلاقي لدى مُروّجي هذا المشروع ، وبمجرد رؤيتهم لمسافة الخلف بين القول والعمل عند سدنته ؛ لن يرفضوا المشروع ولن يكرهوا قياداته فحسب ، بل ستقودهم الصدمة إلى أن يأخذوا على أنفسهم مكافحة هذا الوباء ؛ كتكفير عن سنوات الانخداع الرهيبة التي كادت أن تقذف بهم في جحيم الإرهاب. كثيرون لم يكتشفوا بعد حقيقة هذا المشروع . ولا بد أن يكتشفوه أو أن يُضطروا إلى اكتشافه في يوم من الأيام . إن اكتشاف هذا الجانب ( السقوط الأخلاقي ) في حملة مشروع الإسلام السياسي ، جعلني أتابع باهتمام تفاصيل سلوكياتهم في هذا المجال . حاولت أن أقرأ روايتهم التي يكتبونها بصمت ، والتي لم تكتمل بعد !. اتضح لي بجلاء بعد أكثر من سبع سنوات من الرصد الدقيق أن هذا المشروع : مشروع الإسلام السياسي ، هو في ممارساته وغاياته مشروع غير أخلاقي وغير إنساني ، بل هو مشروع مضاد لكل ما يتغيا الإنسان . وهذه حقيقة لو عرفها الجيل الجديد بتفاصيلها المرعبة ؛ لوضع نفسه في الجبهة كخط دفاع أول ضد أعداء الإنسان .