الحكاية ليست هي القصة الفنية أو الرواية ؛ كما يتخيّل القارئ الذي استهلكه الخطاب التقليدي بالتسطيح . الروائي ليس هو ذلك الحكواتي الخائب . الرواية خلق ( = إبداع ) لعالم جديد . ومن ثمَّ ؛ فهي فن شمولي راقٍ . الروائي ( إنسان حي !) وفنان ومثقف في آن ، أو يجب أن يكون كذلك ، بينما الحكواتي ( إنسان ميت حالة مَوات !) ، الحكواتي مُتسلٍّ ومُتسوّل بالشعوذة والتسطيح ، ومُمارس محترف لتفعيل خطاب الجهل والتجهيل .الرواية عالم مُركّب ، عالم لا يمكن فيه عزل البناء العام للشخصيات عن طبيعة الفضاء الزماني أو الفضاء المكاني أو الفضاء الاجتماعي . كلها عناصر لتخلق واقعا حيا ، ومن خلال ذلك تُؤسس لوعي حي . البطولة في عالم الرواية قد تتحدد في شخص أو مجموعة أشخاص ؛ ولكنها لا تنفرد بالبطولة عن الروائي المبدع ، فالزمان والمكان ، كما الفكرة والحدث والمجتمع ، شركاء في البطولة ، شركاء في صنعها . أي أن الرواية تعكس الوعي بالواقع ؛ حتى في أشد صورها بُعداً عن الواقع . الرواية ( وأقصد الرواية الفنية بالطبع ) حالة من أشد حالات ( التّعقل ) حتى وهي تستلهم عوالم اللامعقول . هكذا هي الرواية وليست هكذا هي الحكاية الساذجة . لهذا ، فالرواية حالة وعي ، بينما الشعوذة الحكواتية حالة غيبوبة وعي ، حالة تبدأ من اللامعقول لتنتهي باللامعقول . الحكاية كلما كانت ساذجة ومُسطحة وغرائبية ومشحونة بما يُعزز البُعد الشوفيني العام ؛ استقطبت كثيرا من الجماهير . لهذا استخدمها خطاب التكفير والتجهيل في صناعة قاعدته الجماهيرية العريضة . ونجح في ذلك . الرموز التقليدية التي تلقى اليوم رواجا لدى الجماهير هي مَن تتقن ممارسة دور الحكواتي الخائب . لا يحتاج الحكواتي إلى أي إعداد من أي نواع ؛ لأنه ليس حتى ذلك الحكواتي المُحترف الذي كان يمسك بالربابة ويشدو بالحكاية على ترجيعها الحزين . لا يحتاج الحكواتي الغفوي الخائب سوى حفظ بعض الحكايات التراثية ، أو التقاط بعض الغرائبيات المعاصرة الرائجة في خطاب التقليديين . بل لا يحتاج حتى إتقان ( الحفظ !) ؛ لأنه سيروج في عالم ( البؤساء ) حتى ولو كانت ذاكرته مثقوبة بألف ثقب ، بل ولو كانت مخرومة بالكامل . لن يكتشف أحد حجم الأخطاء النقلية ، ولا حجم العبث بالتواريخ والأسماء ، ولا الاحتيال الإيديولوجي باجتزاء النصوص ؛ لأن من يستهويهم هذا الهراء الغفوي عاجزون عن مجرد الاختيار ابتداء ؛ فكيف بممارسة الاختبار بعد ذلك ؟ّ! . هكذا تُصبح الجماهيرية في قبضة الأغبياء ، بل في قبضة جهلة الأغبياء . وتهون المأساة نسبياً لو توقف الأمر عند مجرد الحشد الجماهيري بقصد نشر خطاب الجهل والتجهيل . المأساة الأعمق أن هذه الجماهيرية تمنح الحكواتي وأمثاله شعوراً مغلوطاً بتجاوزه لحالتي : الغباء والجهل . بل ، ولتواضع عقلية الحكواتي ؛ مقارنة بأقرانه من أبناء التيار الغفوي نفسه ، ولعشقه المجنون لعالم الإعلام ، ولكون الإعلام اليوم هو إعلام الصورة و( الإثارة !) ، وليس إعلام الفكرة ، فقد تقذف به الشهرة بعيدا ، وقد يرتقي به الغرورُ مُرتقى صعباً ؛ فيتصور نفسه واعيا بعوالم السياسية كلها ، فضلا عن يقينه القديم المغرور بأنه عالِم بعوالم الخطاب الديني قديمه وحديثه . ولأنه ساذج وجاهل ؛ فسرعان ما يقع فريسة الأوهام والأحلام والخيالات ...إلخ . الشهرة مُسكرة بأشد مما تفعله كؤوس الرَّاح ، وهي تعطي صاحبها المسطول انطباعا مغلوطا عن الذات . يتصور المشهور إذا ما كان ساذجا وجاهلا أن هذه الشهرة العريضة لم تأتِ إلا نتيجة علم واسع ونباهة استثنائية وسمت تقوي ، وأن هذا الاحتفاء الإعلامي ليس له بُعد آخر غير ما تحدده الكلمات الصريحة إبان التعاقد بالملايين مع تُجار الفضائيات . لا يستطيع الحكواتي أن يدرك أن معظم تُجار الفضائيات لا يتعاملون إلا مع الصورة ، وأن المسألة لا تتعدى درجة التشويق التي تُوفّرها لهم ( فتاة الإعلان ) .عندما تنجح ( الفتاة ) في رفع درج التشويق ؛ فيزداد حجم الطلب عليها ، يصيبها الغرور القاتل ، فتتصور أن هذا لملكات فكرية وفنية فيها ، لم تكتشفها إلا جماهير الإعلان التجاري . ولهذا تُسرع إلى استثمار المواهب الخارقة التي اكتشفتها بما رأته من حالة التفاف الجماهير عليها ؛ فتلقي بنفسها بين يدي هذا المخرج السينمائي أو ذاك ، تُطالبه بأن يمنحها دور ( البطولة !) في فلمه القادم . وعندما يكون ( نزيهاً ) فيُصرّح لها بأنها لا تمتلك أية موهبة فنية ، وأنها لا تمتلك إلا ( ملاحة الصورة ) التي تنضح بالبرود العقلي والعاطفي ؛ يصيبها الذهول ، وتقول له : أما ترى هوس الجماهير بي ؟ . وعندما يحاول إفهامها أنها قد تنجح ك( فتاة إعلان ) ؛ لأنها لا تحتاج في الإعلان التجاري إلى أكثر من ملاحة الصورة الباردة ؛ تتهمه بالجهل ، وأنه لا يحسن تقدير المواهب . وستستمر في البحث ؛ لقناعتها بمواهبها ؛ حتى تقع في ( فخ ) المنتج السينمائي غير النزيه ، والذي بمنطقه التجاري سيشتري لها مجموعة من المُخرجين البائسين . أحدهم ، وكان شابا متدينا ، دخل للتو كلية الشريعة ، أكثر من عتابي على نقدي لمُهرجي الإعلام الفضائي ( = مروجي خطاب التقليدية التكفيرية ) ، وكان يطالبني بأن أرى الجوانب الإيجابية ، أن أرى نوعية الإرشادات التي يبثونها ، وأنها لا تزيد عن محاولة تقوية التقوى في القلوب . أخبرته أن هؤلاء يجمعون بين الجهل والتكفير ، فهم يجعلونك جاهلا ومتعصبا في آن ، فلم يصدق ، واعترض بأنه يستمتع بالسماع لهم ( وعد هذا الاستمتاع دليل علم لديهم ! ) ، وأنه لم يسمع من أيٍّ منهم كلمة تكفير صريح . لم يكن ثمة مجال لإقناعه بحجم جهل هؤلاء وانطوائهم على رؤى تكفيرية إلا بجعله يكتشف ذلك بنفسه . سألته : بما أنك مُدمن على فضائيات هؤلاء ، فاذكر لي خمسة من نجومها اللامعين ، من النجوم الذين تراهم مصلحين ومتسامحين ومفيدين علميا لك ولأمثالك . ذكر لي خمسة أسماء . ومن الغريب أن الحكواتي التكفيري كان أوّل هذه الأسماء . قلت له : هل ترضى بأن تختبر بنفسك هذا الحكواتي ، قال : أنا ! كيف ؟ ، قلت أحضر ورقة بيضاء وقلما . أحضرهما . قلت له : لمدة أسبوع كامل ، تابع كل حلقات الحكواتي في كل الفضائيات ، واكتب في هذه الورقة ما هو جديد عليك، لا تكتب فيها أي شيء سمعت به من قبل أو قرأت عنه ، اكتب فقط ما تعده فائدة جديدة تضيفها إلى رصيدك المعرفي . رجع بعد أسبوع وهو يضحك ، وكان قد شاهد كل ما تم بثه من حلقات الحكواتي ، وقال لي : فعلا ، الرجل جاهل ، إنه مثلي ، فقط استمع إلى الكثير من أشرطة الكاسيت ، وقرأ متصفحا بعض الكتاب التراثية ، تصور أنني أحسست أنني أعرف أكثر منه ، مع أنني مجرد طالب شريعة في السنة الجامعية الأولى . ثم أعطاني الورقة ؛ فإذا الورقة البيضاء بيضاء كما كانت ، إلا من ثلاثة أسماء تاريخية عابرة لا تفيد معرفتها ولا يضر الجهل بها . قال : هذا هو الجديد ، ولا شيء سواه ! . بدأ هذا الشاب يفكّر . قال : كنت استمتع بجلسة ( الوناسة ) التي يعقدها الحكواتي في برنامجه الفضائي ، ولم أكن أفتش حقيقة عن الفائدة المعرفية ، كنت أحس بأنني في جلسة ترفيهية في إحدى الاستراحات ، ولم أعِ إلا اليوم أن تمتعي لم يكن عقلياً، وإنما هو مجرد استئناس بتلك الضحكات والتعليقات الساذجة ، واستئناس باكتشاف بعض الوجوه التي كانت تُوضَع للحكواتي كجمهور صغير، يمارس عليه الدروشة والاستغباء ، ولا ينطقون إلا بمفردات الموافقة والتقليد والتأييد. اقتنع هذا الشاب ب( جهل ) الحكواتي ، ولكنه لم يقتنع بأنه ( مكفراتي ) منتم إلى خطاب التكفير . قلت له : انظر ، من هم شيوخه ، وما هي مرجعيته ، وفي أيٍّ من حواضن التقليدية تخرّج . قال معتذرا عنه : ربما لا يستطيع الإعلان عن تسامحه ، وعدم تكفيره لجميع المسلمين ، ولكن يكفي أنه لا يجاهر بالتكفير ، فلم أسمع أنه حكم بتكفير أي مسلم ، ولا أنه صرّح بتكفير أية فرقة من فرق المسلمين ، بل ينتقد الأخطاء كأخطاء . كان هذا الشاب يريد مني دليلا مباشرا وصريحا وآنيا على أن الحكواتي مكفراتي ، ولم أجد آنذاك ما أرصده عليه كمقولة تكفير صريحة . كان هذا قبل أكثر من ثلاثة أشهر . لكن ، قبل أسبوعين تقريبا ، وبعد أن سمع ورأى ، بالصوت والصورة ، ذلك الحكواتي يجأر بالتكفير الصريح ، تكفير عشرات الملايين من المسلمين ، اقتنع ، واتصل بي قائلا : لم أكن أتصور أنني كنت على وشك أن أكون ضحية لهذا الجهل العريض ولهذا الوباء التكفيري ، أحسّ بأنني أحيا من جديد . نحن لا نكتشف حجم الجهالة التي تفرض نفسها علينا ، إما لأننا لا نستطيع ، وإما وهو الأغلب لأننا لا نريد ، لا نريد الإفاقة من خدر الجهالة اللامسؤولة إلى حالة الوعي المسؤول . مَن نمنحهم الثقة ، لا نريد اكتشاف أنهم خونة ، ومَن نمنحهم عواطفنا لا نريد اكتشاف أنهم يُتاجرون بعواطفنا . وفي حالة الحكواتي مثلا ، لا نريد أن نكتشف أنه ليس أكثر من جاهل مهووس بالشهرة ، وأنه عاشق كبير لعالم الكاميرا ، وأنه مستعد لأن يفعل أي شيء ، وأن يقول أي شيء ، من أجل استثمار عواطف الجماهير ، التي ستستحيل إلى أرصدة في البنوك ، بحجم سخاء فضائيات الإثارة !. في البيئات التقليدية التي لم تندغم بعد في عوالم المعقول الإنساني ، يسهل اكتساح عواطف الجماهير . الجماهير في هذه البيئات تتعامل ببرود ولا مبالاة مع مقولات التسامح والتعايش ، ولكنها تلتهب بمقولات المفاصلة التي تؤجج روح العداء . كلما اشتدت بدائية المجتمع ؛ منح عواطفه للعنصريين . هذا يظهر حتى على المستوى العشائري . فرجل القبيلة الذي يدعو للتسامح مع الآخرين ، وينادي بتجاوز القبيلة إلى الحضور المدني / الوطني ، يجد نفسها منبوذا من القبيلة ومرفوضا من العشيرة . بينما رجل القبيلة الذي تجده مهموما بالبحث عن أصول القبيلة وفروعها ، والذي تصبح ( شجرة العائلة ) همه الأول ، والذي يدّعي تميّز قبيلته بخصائص وسمات أزلية لا تتوفر في غيرها ، يحظى بالاهتمام والاحترام والتقدير والتبجيل . الأول ، ولأنه غير عنصري ؛ لا تلتف حوله الجماهير ، بينما الثاني تقوم القبيلة بتصعيده ، وربما بتقديسه ؛ كلما أوغل في التّعنصر المجنون . الأول ، مُتوفّر على وعي مدني عقلاني إنساني ، وعي يعي الإنساني من حيث هو إنسان ، بصرف النظر عن أية اعتبارات إضافية على الأصل الإنساني . بينما الثاني ، مُتوفّر على وعي حيواني غرائزي افتراسي ، يتعامل مع بني البشر بوصفهم فرائس قابلة للالتهام . الافتراس قد يكون ماديا بسحق الأقوى للأضعف ، والاستيلاء على أكبر قدر من حقوقه ، وقد يكون معنويا ، وذلك بازدرائه ، أو بالتسامح مع الأدبيات التي تُمارس هذا الازدراء ، بوصفها أدبيات تعكس وضعاً ( طبيعياً !) . وقد يكون الافتراس بالتكفير ، وهو الافتراس الذي يجمع بين المادي والمعنوي . وهذا ما تمارسه أشد الوحوش توحشا ، وأبعدها عن عالم الإنسان . لا بد من إيقاف هذا الجنون التكفيري ، ولا بد من الحجر على هؤلاء المجانين الذي يعبثون بمستقبلنا. أزمتنا المزمنة ، أننا بدل أن نقوم بتصفيد هؤلاء التكفيريين ، ونمنعهم من افتراس غيرهم بأنياب ومخالب التكفير ، نفتح لهم عالم الفضاء الجماهيري الواسع . هم لا يتحمّلون أضواء الشهرة الساطعة ، بل يحترقون بها منذ اللحظات الأولى ، يُدمنون عليها ، وفي لحظات الانتشاء يفشون كثيرا من الأسرار أسرار التكفير ! . منذ أمد طويل ونحاول تبرئة خطابنا الديني من التكفير ، ونُؤكد على براءته من الإرهاب ، ونُروّج لتسامحنا ! . وفجأة ، يخرج من بيننا من يرمي تهم التكفير ، ويصبّها على طوائف إسلامية كبيرة . هنا نجد أنفسنا أمام موقف صعب ، فإما أن نؤكد على ما قاله ، ونعترف أنه بتكفيره للمسلمين إنما يُعبّر عن حقيقة معتقدنا ، وأننا تبعا لذلك تكفيريون ، وإما أن نقف موقفا صارما من افتئات الحكواتي التكفيري على حقيقة معتقدنا ، وأن نعلن أنه مارس انحرافا عقائديا بتكفيره لإحدى فرق المسلمين . إننا إذا ما أردنا تأكيد ( اعتدالنا ) و( وسطيتنا ) فعلينا بتجريم الحكواتي التكفيري ، ووضعه في خانة : غلاة التكفيريين . جريمة الحكواتي ستطال خطابنا الديني كله ؛ إذا لم يُجرّمها الخطاب الديني صراحة ، ويُدينها بكل وضوح ، وبدون أية استثناءات اعتذارية . وبصراحة ، إن كان ثمة من عقلاء في الخطاب التقليدي لدينا ؛ فعلى العقلاء ضمان ما أتلفته نزوات المجانين .