كنت أشرت - في مقال سابق - إلى أن أ. فايز الحربي كتب ينسب إلى اثنين من شيوخ قبيلته (بداي ومسعود بن مضيان) أنهما كانا أميرين على المدينةالمنورة من قبل الدولة السعودية الأولى، وأوضحنا أن أميري المدينة في ذلك العهد كانا (حسن قلعي 1220- 1226ه وإبراهيم بن عفيصان 1226- 1227ه) وأوردنا نصوص الوثائق التاريخية وأقوال المؤرخين (المعتبرين) التي تؤكد (صراحة) ما ذهبنا إليه. بيد أن ما أدهشني أن أطالع رد الأستاذ على مقالي سالف الذكر (محمد العوفي الحربي) واللافت للنظر حد الدهشة هو إسقاط هذا الكاتب ذكر الأمير حسن قلعي من حساباته تماماً وحصر الخلاف على إمارة المدينةالمنورة بين ابن عفيصان الذي لايعترف الكاتب بتوليه إمارة المدينة وابن مضيان الذي يسعى الكاتب بإصرار لا اعرف دوافعه (أو أدعي أني لا أعرفها) إلى تنصيبه أميراً للمدينة على حساب التاريخ، وهذا ولاشك فيه إجحاف وتهميش لرجل خدم الدولة السعودية الأولى واخلص لقادتها المصلحين، وقد كان هذا التهميش عن قصد من الكاتب لأنه يعلم أن حقيقة إمارة حسن قلعي للمدينة سوف تلغي إمارة آل مضيان بتاتاً، وتخرجهم من دائرة الخلاف، حيث إن النصوص الواردة في إمارة حسن قلعي قاطعة بإمارته ولا تعطي أي مجال لأي تأويل. ولأن المجال ربما لا يتسع طويلاً سأتتبع بعضاً بعضاً منها من وجهة نظر الكاتب (أو الستار الذي يقف وراءه الكاتب الأصلي): 1): (التجاهل): تجاهل الكاتب النصوص التي أوردناها لعثمان بن بشر المؤرخ السعودي المعتبر المعتد بروايته المعاصر للأحداث في تلك الفترة، الذي زار الحجاز وحج عام 1225ه في رفقة الإمام سعود بن عبدالعزيز رحمه الله . (ابن بشر ج1ص314) وهي الفترة التي كان حسن قلعي فيها أميراً على المدينة 1220- 1226ه ويأخذ بأقوال (الجبرتي) الذي كان يعيش في مصر، هو وبوركهارت الذي سمع بما (رآه) ابن بشر قبل سفره إلى الحجاز ب(11) عاماً. أ) فعندما يقول عثمان بن بشر المؤرخ السعودي القريب من أئمة الدولة آنذاك (ج1ص362): (.. وعلى المدينة النبوية حسن قلعي..) فمن الاستخفاف بعقولنا أن يتخذ الكاتب هذا النص الصريح ظهرياً، ويذهب للبحث عن ضالته لدى مؤرخي مصر وتركيا- مع احترامنا وتقديرنا لهم جميعاً- لكن هذا يتنافى مع أبجديات البحث العلمي، بيد أن المسألة لا علمية ولا بحثية ولا يحزنون. ب) وأيضا تجاهل نص مؤلف كتاب كيف كان ظهور شيخ الإسلام، تحقيق الدكتور عبدالله العثيمين ص 134(.. وأما المدينة فهي تحت حكم حسن معكي قلعي . وما حولها فهي من حكم ابن مضيان..). وهذا الكتاب من أقدم المصادر التي تحدثت عن الدولة السعودية الأولى وأقدم حتى من كتاب عثمان بن بشر، ومن خلال هذا النص الواضح يتبين لنا ان ابن مضيان كان معينا على مشيخة قرى حرب التي حول المدينة بينما كان أمير المدينةالمنورة حسن قلعي وقد نص الشيخ ابن قاسم على أن أمير المدينة في عهد الإمام سعود كان حسن قلعي ) الدرر الثنية بالأجوبة النجدية. 376/16.ج) وحتى بوركهارت والذي لا أعول عليه لان عنده اضطراب كثير في كتابه وهذا ناتج عن عدم معاصرته للأحداث، ومع ذلك فنصوصه ليس فيها تصريح بإمارة ابن مضيان بقدر صراحتها في تنصيب ابن مضيان شيخ على بلاد قبيلة حرب، ففي كتابه ملاحظات عن البدو والوهابيين، الانتشار العربي، ص187(.. رئيس المدينة حسن قلعي كان اغتصب السلطة واستولى على الكنز الموضوع في قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- واقتسمه مع صحبه قبل ان يعلن استسلامه (للسعوديين) .. .. اضطر القائد التركي آغا الحرم المعين من قبل السلطان إلى المغادرة مع الحجاج الأتراك ونصب سعود مكانه الشيخ مضيان الذي أمسى شيخ قبيلة بني حرب..) . وفي ص199(.. مسعود المضيان الذي رفعه سعود إلى قيادة بني حرب..) . وفي هذين النصين اعتراف من بوركهارت بان مسعود بن مضيان عين من قبل إمام الدرعية على مشيخة قرى وبادية قبيلة حرب. أما حسن قلعي فكان أمير المدينةالمنورة. 2): (التشكيك): شكك الكاتب في وثيقة عثمانية HH.19548 صريحة ل(طوسون) القائد العثماني الذي كان يقف حينها على بوابات حصون المدينة في حربه مع أميرها السعودي، وأرسل إلى حاكم مصر محمد علي رسالة مؤرخة بتاريخ 10محرم 1227ه يقول فيها: (.. أما بما يتعلق بالمدينةالمنورة التي احتلها الوهابيون فإن (الإمام) سعود كان عين حسن قلعي بوظيفة أغا للقلعة وأميراً فيها، ولكنه عاد فعزله ونصب بدلا عنه رجلا يدعى عفيصان من الشروق أميراً على المدينة وأغا للقلعة..) فلا أعرف كيف يريد الكاتب أن يلغي عقولنا حتى نتصور أن طوسون لم يكن يعرف من يحارب، وأن الجبرتي الذي سمع عن الموقعة في مصر علم ما لم يعلمه طوسون المرابط على أبواب المدينة. وكانت حجته (الضعيفة) أن طوسون قلل من حجم خسائره في معركة الصفراء، كما انه تحامل على الإمام سعود بن عبدالعزيز !!. وردِّي أن هذا أمر طبيعي، فلن يقول القائد لوالده حاكم مصر (محمد علي) إنه هزم شر هزيمة فلكذب القائد بشأن هزيمته هدف هو تلطيف موقفه، وكذلك نيله من الإمام سعود لأنه عدوه الذي هزمه، لكن كون من كان أمير المدينةالمنورة حسن قلعي أو ابن مضيان أو ابن عفيصان، فما الفائدة في الكذب بشأن أمر كهذا؟!!. ووثيقة طوسون هذه وحدها تكفي لرد ما سواها من النصوص الضعيفة التي أورها الكاتب في رده فالأمور كانت واضحة تماماً أمام طوسون حتى أنه يقول في وصفه لأمير المدينةالمنورة: (.. ونصب بدلا عنه رجلا يدعى عفيصان "من الشروق" أميرا على المدينة وأغا للقلعة..) وكلمة (الشروق) تعني في مصطلح أهل الحجاز النجديين، والمعلوم أن ابن مضيان حجازي وقد جاء ذكره في نفس الوثيقة كأحد رجال الدولة السعودية المكلف بالإشراف على قرى قبيلة حرب، مما يؤكد معرفة طوسون بالرجلين ومكانتهما في المدينةالمنورة، يقول: (.. واتجه ابن مضيان بعد ذلك إلى موطنه الصفراء والجديدة، وحضر ابن جبارة نهاراً إلى السويقة للإقامة فيها وظل فيها نحو نصف ساعة من الليل ثم عاد إلى قريته وبقي فيها هذا ما بلغني من الأخبار..) . أ) وفي وثيقة أخرى تؤكد سابقتها وتشير إلى أن ابن مضيان كان مكلفا بإمارة الصفراء إحدى قرى قبيلة حرب، بينما الأمير إبراهيم بن عفيصان كان مكلفا بإمارة المدينةالمنورة. (وثيقة رقم (ب) 123842- 59الدارة) يقول طوسون فيها: (.. تواردت الأخبار عن أن الوهابيين قد وصلوا إلى محل يبعد ثماني ساعات عن ينبع البر فقد تراجعوا، وان ابن مضيان قد توجه إلى صفرا وابن عفيصان قد توجه نحو المدينةالمنورة وغالبا ما سيحفرون الخنادق حولها ويحصنونها..). فإن كان لديك ياصديقي وثيقة صريحة واحدة عثمانية أو مصرية أو محلية ورد فيها أن مسعود وبداي كانا أميرين للمدينة فلتتحفنا بها، ولا تقل لي الجبرتي مرة أخرى ،فالجبرتي لا ترجح كفته في ميزان أمام مصدر محلي ومعاصر للحدث مثل عثمان بن بشر، ولا تقل لي أيضا إن الجبرتي أو بوركهارت يعلمان أكثر من طوسون بن محمد علي الذي كان واقفاً على أبواب المدينةالمنورة ويحاصر أميرها السعودي إبراهيم بن عفيصان .. وان كنت أرى ماسبق فيه الكفاية لإبطال ما أورده الكاتب من حجج طويلة لا أساس متين لها، إلا أنني أخشى أن يفتتن من لا خبرة لهم بهذه الأمور من القراء الكرام، لذلك سأواصل الرد على ماكتبه، حتى يكون كلامه ردا عليه. 3): تدهشك التعليقات العجيبة للكاتب على نصوص ثابتة تاريخياً، والحقيقة فيها واضحة للعيان، في محاولة يائسة للنيل من حجيتها، فيأتي بوثيقة لا يعلم أنها تؤكد ما ذُكر في وثيقتنا السابقة (الحجة) ؛ إذ تقول الوثيقة أن المحافظين في المدينة هم: (إبراهيم بن عفيصان، وصالح بن صالح، وأحمد الحنبلي). ثم يعلق عليها الكاتب قائلاً: (من هو المحافظ منهم؟ كما أن السعوديين لا يسمون حكامهم محافظين!!.). فأشكر الكاتب (أولاً) على أنه أضاف إلى ما لدينا من وثائق وثيقة إضافية، وأوضح له أن المقصود بهؤلاء (لدى الأتراك) مثل المتعارف عندنا رؤساء الدوائر الحكومية أمير البلد، وقاضي المحكمة، ورئيس الشرطة.. الخ. فإبراهيم بن عفيصان أمير المدينةالمنورة كما ذكرت الوثيقة (الحجة) السابقة، وكذلك حسن الريكي: لمع الشهاب ص194) (.. فسار سعود نحو المدينة وطوسون باشه حينئذ في ينبع فرتب فيها إبراهيم بن عفيصان مع 8آلاف مقاتل..)، وأيضاً فيلكس مانجان (ص 328) (.. أرسل سعود لإبراهيم بن عفيصان حاكم الأحساء أن يذهب للإشراف على المدينةالمنورة..). وأحمد الحنبلي قاضي المدينةالمنورة انظر الوثيقة الحجة السابقة HH.19548 فقد ورد فيها:(.. كما أنه عين بدلا عن أحمد الياسر أفندي: واحدا .. يدعى (أحمد الحنبلي) وهو الذي كان قبلا يقيم بالدرعية..)، وكذلك ابن بشر، ج1ص364، أما صالح بن صالح فكان من قادة الحامية في المدينةالمنورة بوركهارت ص 199.ثم يقول الكاتب: إن السعوديين لا يسمون حكامهم محافظين، ناسياً - سبحان الذي أنساه- أن كاتب الوثيقة عثماني أرسلها إلى حاكم مصر!!. 4): ويبدو أن الكاتب ينتقي المغالطات انتقاء لمصلحة (مجهول معلوم) ومن ذلك ما أورده من تعليق مغلوط لكاتب حديث اسمه عبدالباسط بدر، صاحب (تاريخ المدينة الشامل)، يعلق فيه الأخير على نص عبدالرحيم عبدالرحمن صاحب كتاب (الدولة السعودية الأولى)، فيقول عبد الباسط عند تعليقه على قول عبدالرحيم إن حسن قلعي أمير المدينة: (إن الأمير هو مبارك بن مضيان كما يفهم من ابن بشر والجبرتي). وهذا خطأ من المعلق عبدالباسط، بالطبع جاء على هوى الكاتب فابن بشر قال (ج1ص362): (.. وعلى المدينة النبوية حسن قلعي..) ولم يقل (ابن مضيان) إذن أخطأ عبدالباسط، وانتهز العوفي الفرصة. وفي هذا برهان على أن الكاتب لايسعى للحقيقة بقدر ما يلهث وراء أهواء، فهو يعلم يقيناً أن ابن بشر لم يذكر ابن مضيان أميراً للمدينة، فلماذا يستشهد بهذا النص المغلوط وهو يعلم ذلك؟ بيد أن سؤالاً هنا يطرح نفسه: لماذا عبدالرحيم عبدالرحمن المؤرخ المصري ذكر في كتابه أن أمير المدينة هو حسن قلعي معتمداً على عثمان بن بشر، ولم يأخذ عن الجبرتي وهو ابن بلده؟!. الإجابة واضحة أن الرجل يبحث عن الحقيقة فمن باب أولى أن يبحث عنها عند من رآها، وعاشها وليس عند من وصلته متأخرة في بلده وبعدما شوهت معالمها ودس فيها ما دس وحيك فيها ماحيك، بيد أن كاتبنا العوفي ومن وراءه كما وضح الآن لم يكونا يبحثان عن الحقيقة. 5): هذا فضلاً عن استشهاد الكاتب بمؤرخين متأخرين ومعاصرين مثل: (أيوب صبري ت1290ه) و(احمد دحلان ت1304ه) (وعارف عبدالغني) و(البرادعي) و(عبدالباسط بدر)، و(محققي كتاب خليل الرجبي) ولا أعلم لهذا فائدة سوى ملء الورق وإضافة براهين إضافية (لا صحة لها) خاصة إذا وضعنا في الكفة المقابلة لكفة هؤلاء المؤرخ (فيلكس مانجان)، ولعلم القارئ غير المتخصص فإن فيلكس مانجان أقدم من هؤلاء المؤرخين، الذين يستقي منهما الكاتب ما يوافق هواه فضلاً عن أن مانجان أخذ معلوماته من الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب المنفي في مصر آنذاك والذي عاصر تلك الأحداث، صاحب كتاب المقامات المتوفى عام 1285ه . ولعلم القارئ الكريم فإن مصدر هذه المعلومة المغلوطة واحد وهو أيوب صبري، وكل أولئك إما نقلوا عنه أو نقل بعضهم عن بعض، والدليل ان أيوب صبري أول من أخطأ باسم ابن مضيان، فقال: مبارك بن مضيان وهؤلاء كلهم يذكرون مبارك بن مضيان أي أنهم مجرد نقلة فقط دون تمحيص أو تدقيق بينما المعني هو مسعود وليس مبارك. 6) ولا يكتفي العوفي بالقفز فوق الحقائق التاريخية، بل يخونه حذره، ويدعي ادعاءً غير صحيح على الدكتور سهيل صابان حين يقول إن الدكتور صابان اعتمد فيما كتب عن إمارة مسعود بن مضيان للمدينة على وثائق عثمانية. وهذا الادعاء غير صحيح بينما الدكتور وثق بحسن نية نقلاً عن كتاب فائز الحربي، وليس على وثائق عثمانية كما ادعى الرجل وأراد تمرير ادعائه، وإنني أدعو الأستاذ (راشد العساكر) القائم على هذه الصفحة لمراجعة الدكتور صابان ليتأكد منه شخصياً (هل عندما وصف مسعود بن مضيان بانه أمير المدينة) هل نقلها عن وثائق عثمانية أو عن كتاب فايز الحربي، وحتى يدفع الدكتور سهيل المعروف بنزاهته عن نفسه ذلك التلبيس، فهو شخص أقدره وأحترمه. 7): (خلط): ولا يضيِّع الكاتب فرصة لتمرير مغالطاته إلا وأحسن استغلالها، ومن ذلك قوله: ان ابن مضيان هو الذي ذهب إلى العثمانيين في مصر برفقة حامل مفتاح المدينة مستدلاً بذلك على أنه كان الأمير (كما يفهم من الجبرتي).. وهذا قول مردود عليه؛ ويحتاج إلى توضيح فثمة معلومة قد تكون غائبة عن البعض، وهي أن المفاتيح التي سلمت هي مفتاحان وليسا مفتاحا واحدا، هما مفتاح القلعة ومفتاح الحرم: فمفتاح القلعة كان مع إبراهيم بن عفيصان وسلم مفتاحها لمحاصريه بعد خروجه منها - بينما مسعود بن مضيان كما هو ثابت كان في بيته ولم يكن بالقلعة- ومفتاح الحرم وكان مع حسن قلعي الذي عزل عن إمارة المدينة وعهد إليه الإشراف على المسجد النبوي والحجرة النبوية (محمد البسام: الدرر المفاخر،ص34)، فقام طوسون بعد استيلائه على المدينةالمنورة وأسر مسعود بن مضيان بإرسال المفتاحين إلى مصر وكان مسعود بن مضيان يرافق حامل المفاتيح .. وقد ظن الجبرتي أن الذي أرسلت برفقته المفاتيح هو الأمير، ومن هنا جاء الخلط، لكن الذين أسروه، وأرسلوه وأعدموه كانت الأمور عندهم واضحة دون خلط، فلم يذكروا في تقاريرهم المرسلة أن المذكور كان أمير المدينة بل كانوا يصفونه (بشيخ قبيلة).. وهذه ليست الحالة الوحيدة التي ترسل فيها مفاتيح مدينة برفقة رجل غير الأمير فالقائد المجاهد عثمان المضايفي رحمه الله أرسلوه بمفاتيح مكةالمكرمة فهل يصح أن يقال انه كان أمير مكة فالمدون في مراسلات العثمانيين واتفقت معه كتب المؤرخين أن أمير مكة في تلك الفترة كان الشريف غالب بن مساعد "للحديث بقية"