متابعة الحالة العراقية لا يعني فقط متابعة مجريات يوميات تدور على الساحة العراقية، إنها حالة تنتج دروساً أيضاً، ودروساً بالغة الأهمية في منطقة عربية مأزومة، لا تتوقف مشكلاتها عند تخوم التدخل الأجنبي، بل تطال وهذا المهم، ذلك الفشل الكبير في اكتشاف أزمة المنطقة تعيش حالة استعصاء في بناء نماذج قابلة للحياة وقابلة للتطور وقابلة لبناء تكوين وطني تلتف حوله جماهير وطن، لا رعايا طوائف أو قوميات أو اثنيات. الصراع اليومي في العراق والتعثر المتواصل في تقدم العملية السياسية، عناوين تأخذ أبعادا كبيرة في مساحة المشهد الإعلامي، والتحالفات الآنية بين أطراف العملية السياسية العراقية ونقضها في آن أو تجميدها لعب على حبال الزمن القصير دون بلوغ تلك الدرجة التي تعزز الثقة بمستقبل عملية سياسية قادرة على إنقاذ العراق. نقرأ المشهد العراقي عن بعد، وهو الذي أصبح عناوين يوميه في إعلام لا يتوقف عن ضخ المزيد عن هذا المشهد القلق والمتأرجح بين الأمل البعيد والخوف القريب، ولذا يصبح اللقاء المباشر بشخصية سياسية أو ثقافية أو دينية قادمة من العراق فرصة لقراءة عناوين ابعد مما يضخه المشهد الإعلامي الذي غالبا لا يخلو من التوظيف أو التسويق. ويصبح من فضائل مثقف كبير كالدكتور راشد المبارك - أمده الله بالصحة والعافية - أن يدعو بين الحين والآخر شخصيات ثقافية وسياسية ودينية، ليتيح فرصة للحوار المباشر معها، خاصة وان أهمية الحوار المباشر يتجاوز مفهوم الشخصية إلى مفهوم اثر وفعل الشخصية في الحياة السياسية أو الثقافية. ولعل ما يجعل استعادة بعض الأفكار هنا تحمل مشروعيتها، كونها تتجاوز فكرة لقاء شخصية دينية سياسية إلى محاولة اكتشاف أبعاد تخفيها التباسات اليومي السياسي في بلد مثل العراق. لقد كان اللقاء بالسيد حسن الزرقاني الرجل الثاني في التيار الصدري فرصة للحوار مع شخصية قيادية حول تيار مازال الغموض يحيط به، ومازالت دعوته المناهضة للاحتلال والداعية لرحيله تتناقض مع سياسته وعلاقاته بأطراف العملية السياسية العراقية، ومازال جيش المهدي سر البقاء في واجهة نفوذ الطائفة. مما خرجت به أكثر قناعة بها في ذلك اللقاء، أن الطائفة لا تصنع ملامح مستقبل، والتوافق معقد وصعب وشاق، بين طوائف تتدرع بالطائفة ومكتسباتها وقلقها مهما بدا الاستعداد اللفظي والخطاب السياسي داعيا للمصالحة أو التعاون أو التوافق. الحالة السياسية العراقية بالغة التعقيد، لكن أكثر ملامح التعقيد فيها هي تلك الاحزاب الطائفية التي خرجت للوجود السياسي والميليشاوي بعد سقوط بغداد في ابريل 2003.ومع كل الاعتراف بحق الطائفة في حماية نفسها، ومصالحها، من التغول السياسي من أي طرف كان. إلا أن من الحق الاعتراف اليوم أن توجه التيارات الطائفية لم يقدم أي تصور يمكن التعويل عليه في بناء وطن، ومازالت أسيرة القلق الداخلي ومازالت تلك المرجعيات تحيط مصالحها ومصادرها ونفوذها بالوعي الطائفي أولا. لم أجد في كل حديث الزرقاني سوى إدانة للاحتلال، وانه هو مصدر الوبال على العراقيين ومصدر تفرقتهم وهو من يحمل معول التدمير والقتل والتفجير والقتل المجاني على الهوية. وهذا تبسيط شديد في قراءة الواقع العراقي، لن يقنع الكثيرين بأن وعي الطائفة لا يقف أيضا خلف مأزق العراق ومشاكل العراق وتعطيل العراق. الاحتلال فجر تلك التناقضات لصالحه وعزز حضورها في المشهد العراقي السياسي. التيار الصدري الذي يدين الاحتلال هو من يشارك في العلمية السياسية التي انبثقت عن الاحتلال، والتيار الصدري الذي يطالب برحيله هو من يؤمن بأن وعي الطائفة مقدم على وعي الوطن من خلال ممارسات اليومي، التي تحمل من الأسئلة الشاقة أعقد مما يجيب عليها خطاب سياسي مرتبك وغير متماسك. النتيجة في عراق اليوم، الفشل الكبير للأحزاب الطائفية أياً كان شكلها أو لونها ومرجعياتها، فهي غير جديرة أن تصنع مستقبل وطن عراقي قابل للحياة، وغير قادرة على بناء مشروع يتجاوز وعي الطائفة ومكتسباتها ومرجعياتها. في هذا اللقاء هناك من استدعى عراق العشرينيات التي دعمت تحالفا سياسيا بين شخصية مقاومة دينية وشخصية سياسية مدنية، لتصنع حزباً مثل حزب الشعب العراقي آنذاك، لكن ما يغيب عمن يستدعي هذا التاريخ متسائلا لماذا لا يمكن استعادته الان؟ هو أن العشرينيات من القرن الماضي ليست هي بدايات القرن الحالي. انذاك لم تكن الطائفية مرجعية سياسية كما هي اليوم، أي لم تكن تجمع بين مرجعيتين. تجمع اليوم الاحزاب الدينية والطائفية بين مرجعية الطائفة المذهبية والمرجعية السياسية، وهذا لم يكن حاضرا انذاك في وعي الطائفة السنية او الشيعية أو في وعي الشارع العراقي. ولذا كان من الممكن أن يتحول فعل المقاومة الشعبية في ثورة العشرين حتى لو كان من قادتها رجال دين، إلى حزب يتخذ من الوطني شعارا ويجسده عبر آليات لا ترفض الانتماء العقدي ولكن لا تقدمه على السياسي الوطني حتى تلتبس العلاقة بين مرجعيتين. كما أن الفارق انه لم تكن هناك قوى إقليمية تتجسد فيها تلك المرجعية، ولم تظهر بعد جهادية القاعدة للآخر، مما جعل الفعل يتوجه لضمان بقاء المرجعية نهائية وحاسمة في الفعل السياسي ويقدمها باقية وراسخة في وجدان الطائفة والمجموع المذهبي. عراق اليوم اثبت فشل تلك التيارات الطائفية سواء كانت سنية أو شيعية في تقديم نفسها في عملية سياسية قادرة على إنقاذ العراق من التفتيت والتقسيم والاحتراب الداخلي، وهذا ربما أيضا يحمل مشروع أمل بالخلاص من فكرة التمحور حول الطائفة باعتبارها تجسيدا لمستقبل، للبحث عن عناوين أخرى لا يمكن سوى مقاربتها في الحالة العراقية. النتيجة اليوم فشل وعي الطائفة السياسي في خلق تيارات وطنية قادرة على صهر المجموع في نسيج وطن غير قابل للاختراق. وطالما هذه النتيجة حاضرة سواء من الناحية الفكرية النظرية في حالة تتجاوز العراق بالتأكيد، وحاضرة من خلال التجربة المرة التي حصدها العراقيون خلال اعوام ما بعد الغزو والاحتلال الأمريكي، فإن الحل الممكن والطبيعي هو تحييد وجه الطائفة عن الفعل السياسي وإعادتها لمركزها الديني دون تجاوز حقوقها. لقد اثبت نسيج المنطقة انه غير قابل للعب على حبال الطائفة، ولما يعد الحل سوى من خلال البحث عن فاصل جديد في الحياة السياسية في العراق يمزج تلك العناصر القومية والطائفية في بوتقة تيارات لها صفة الوطني ولتبقي تلك التقسيمات الطائفية بعيدة عن العملية السياسية الوطنية. تحالفات الحالة العراقية السياسية اليوم ليست سوى واجهات للطوائف والقوميات للإبقاء على حالة محاصصة وضمان مصالح الفرقاء، والخروج من وعي الطائفة الى وعي الوطن، لن يكون هذا سوى من خلال إدراك أن التيارات والاحزاب الطائفية لا يمكن بحال ان تنتج قوى وطنية.