رغبة في دفع عجلة النمو الصناعي بالمملكة وللدلالة على ما تم تقديمه من دعم لتطوير الصناعات الوطنية فقد أنشأت الدولة رعاها الله عددًا من المدن الصناعية في المدن الرئيسة بالمملكة لأن تكون وجهة لنمو الاستثمارات في منظومات صناعية وتقنية وأن تأخذ على عاتقها تطوير وإدارة مدن صناعية ومناطق تقنية متميزة تتماشى مع الأولويات الوطنية وبالشراكة مع القطاعين العام والخاص. وللارتقاء بنوعية الخدمات التي توفرها المدن الصناعية تم إنشاء الهيئة السعودية للمدن الصناعية (مدن) عام 2001م، كهيئة مستقلة للإشراف على إنشاء وإدارة المدن الصناعية وتشغيلها وصيانتها وتطويرها بالتعاون مع القطاع الخاص. ولقد قامت الهيئة بتقديم خدمات عدة للمصانع المقامة عليها كمشتقات البترول واللدائن والمواد الغذائية والأثاث والسجاد والموكيت والزجاج والخزف والورق والألومنيوم والحديد والصلب ومواد البناء. وتشرف على هذه المدن إدارة المدن الصناعية بوزارة الصناعة والثروة المعدنية، وقد أتاحت هذه المدن فرصًا مواتية لمكونات القطاع الصناعي تمثل في تجاورها معًا مما يساعد في التفاعل وإيجاد أرضيات مشتركة للتكامل البنَّاء بينها مع توفير إيجارات رمزية لمواقعها وتوفير خدمات ميسرة وملائمة لاحتياجاتها تتمثل في إيجاد مساكن مريحة للعمال وبأجور رمزية وصيانة كاملة لهذه المواقع. لقد أولت الدولة رعاها الله أهمية كبيرة للتنمية الصناعية، وقدمت لها جميع وسائل الدعم والمساندة والتشجيع، ونتيجة لذلك فقد خطت الصناعات السعودية خطوات واسعة يتمثل بصورة أساسية في التطور الذي شهدته الاستثمارات الصناعية حيث أصدرت وزارة الصناعة والثروة المعدنية النشرة الخاصة بمؤشرات القطاع الصناعي خلال الربع الأول من عام 2023 التي تقدم دراسة ضافية وتحليلاً شاملاً للقطاع الصناعي، كما تتضمن العديد من الأرقام والمتغيرات التي تعكس واقع القطاع في المملكة. وأوضحت النشرة الصادرة عن المركز الوطني للمعلومات الصناعية والتعدينية التابع للوزارة أن عدد المصانع في المملكة حتى نهاية الربع الأول من عام 2023 بلغ 10,819 مصنعًا، برأس مال يقدر ب1.432 تريليون ريال، تتصدرها من حيث حجم الاستثمار المصانع العاملة في تصنيع المنتجات الكيميائية، ثم مصانع منتجات المواد الصلبة (الفلزات) ومصانع المواد اللدنة (اللافلزات) الأخرى. وقد أوضحت أن المصانع الوطنية تتصدر المصانع حسب نوع الاستثمار بأكثر من 83.5% تليها المصانع الأجنبية بنسبة 8.5%، ثم المصانع ذات الاستثمار المشترك بنسبة 8%، في حين سجلت منطقة الرياض النسبة الكبرى من إجمالي عدد المصانع بنحو 4,194 مصنعًا، تليها المنطقة الشرقية ب2,476 مصنعًا، ثم منطقة مكةالمكرمة ب2,068 مصنعًا. كما بينت أن المصانع الصغيرة تمثل النسبة الكبرى من إجمالي المصانع حتى نهاية الفترة، حيث بلغت 5,654 مصنعًا، تليها المصانع المتوسطة بواقع 4,341، ثم المصانع الكبيرة التي سجلت 824 من إجمالي المصانع. كما أن النشرة أشارت إلى أن الاستثمار الأجنبي في مصانع المملكة يمثل ما نسبته 8.5% من إجمالي المصانع القائمة حيث يبلغ عدد المصانع الأجنبية في المملكة قرابة 920 مصنعًا بحجم استثمارات يبلغ 71,283 مليار ريال. كما أن مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين تعدان موقعين استراتيجيين للصناعات الهيدروكربونية والصناعات ذات الاستخدام المكثف للطاقة لضمان استغلال الثروات الطبيعية للمملكة بأعلى معدلات النشاط الصناعي والكفاءة الاقتصادية. وتقدر مساحات مدينتي الجبيل وينبع الصناعيتين بحوالي (1030) كلم2 و(80) كلم2 على التوالي. وتشمل هذه المساحات الصناعات الأساسية والمساندة والثانوية ومرافق الإسكان والإعاشة والترفيه والخدمات الطبية والتعليمية والطرق وغيرها من الأنشطة الخدماتية والبنى الأساسية اللازمة لتسيير الحياة. ومن القطاعات المهمة أيضاً قطاع المنتجات المعدنية المصنعة وقطاع الماكينات والمعدات وقطاع مواد البناء والخزف والزجاج وقطاع صناعة المواد الغذائية والمشروبات، وتستحوذ هذه القطاعات الأربعة على ما نسبته 82% من إجمالي أعداد المصانع العاملة في المملكة، وعلى نسبة 94% من حجم الاستثمار فيها. لقد أولت المملكة اهتمامًا كبيرًا لتنمية الصادرات الصناعية تمشيًا مع إستراتيجيات التنمية الاقتصادية الشاملة للدولة في توسيع القاعدة الإنتاجية وتنويع مصادر الدخل، ولذا شهد إنتاج الصناعات التحويلية في المملكة تطورًا مطَّردًا خلال الفترة الماضية، كما أن معدلات نمو قطاع الصناعات التحويلية ظلت تسير في اتجاه تصاعدي طوال هذه الفترة حيث بلغ معدل النمو السنوي للقطاع خلال هذه الفترة 7%، وهو من أعلى المعدلات بين القطاعات الاقتصادية. ونتيجة للتطور الكبير الذي شهده الإنتاج في الصناعات التحويلية خلال الفترة ذاتها فقد ارتفعت نسبة مساهمة القطاع في الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، وبصورة موازية ارتفعت نسبة مساهمة قطاع الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي. وتشير نسب القفزات هذه إلى نجاح جهود الدولة في دفع النهضة الصناعية والتعاون المثمر الذي لقيته هذه الجهود من قبل القطاع الخاص. من ناحية أخرى يشكل التحول الذي حدث في التركيبة الإنتاجية للقطاع الصناعي خلال الحقبة الماضية لإنشاء المدن الصناعية دلالة واضحة على تطور إنتاج الصناعة التحويلية بالمملكة، حيث كان معظم الناتج الصناعي يأتي من صناعة تكرير النفط، وبنسبة تصل إلى (67%) من إجمالي الناتج المحلي للقطاع الصناعي، ولكن مع تطور ونمو الصناعات الأخرى (غير التكريرية) تزايدت مساهمتها في الناتج المحلي الصناعي حتى أصبحت تشكل الجزء الغالب (65%) من إجمالي الناتج المحلي للقطاع الصناعي بنهاية عام 2023م. ويعكس هذا الاتجاه حيوية وفعالية قطاع الصناعات التحويلية السعودية (غير التكريرية). ويشار هنا بصفة خاصة إلى التطور والاتساع الكبير الذي شهدته صناعات البتروكيماويات في المملكة خلال العقدين الماضيين بريادة الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك). وفي هذه المرحلة التي تخطو فيها المملكة بجدية وثبات في المجالات الصناعية فإن التصنيع سيظل الخيار الإستراتيجي الأمثل للإسراع في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، إلا أنه ومع تشكل مناخ إقتصادي مستقبلي يتسم بالانفتاح وشدة المنافسة وازدياد وتيرة المستجدات الاقتصادية والمعلوماتية والتقنية وغيرها من سمات العولمة، تبرز العديد من التحديات التي تواجهها جميع الاقتصادات وقطاعات الأعمال في العالم، ومن ثم تتشكل تحديات كبيرة لمستقبل القطاع الصناعي في المملكة وبالتالي لدور الصندوق كجهاز تمويلي لهذا القطاع. وتبعاً لذلك ومع تسارع تداعيات مناخ الانفتاح والعولمة يبرز العديد من المحاور التي تعتبر من التحديات المهمة في مستقبل الصناعة السعودية ولعل من أهمها وأكثرها حساسية لهو تحسين الأداء والإنتاجية في المنشآت الصناعية الذي يعتمد على كفاءة ونوعية الإدارة في هذه المدن الصناعية، ويكتسب ذلك أهمية كبرى إزاء ما هو متوقع من تزايد المنافسة العالمية وسرعة تطورات الأسواق ومستجدات التقنية، كما وأن هناك حاجة لمزيد من الاهتمام بهذا الجانب في الوحدات الصناعية الصغيرة والمتوسطة، والتي تشكل غالبية الوحدات العاملة في الصناعة السعودية الحاضرة والمستقبلية. * الأستاذ في جامعة الملك سعود