ما تشهده العلاقات الدوليّة الآن من مقاربات ومجريات، تكشف عن مراجعات إستراتيجية بالغة الخطورة، لا سيما في مسائل المحافظة على مناطق النفوذ وبسط الهيمنة، والضرب بالقانون الدولي عُرضَ الحائط. العالم يشتعل الآن على وقع تصاعد الأزمة الروسية - الأوكرانية، ودقّ طبول الحرب بين البلدين اللذين ينتسبان جغرافياً إلى محيط واحد، لكنهما مفترقان سياسياً، رغم نظرة الكرملين المستمرة إلى أوكرانيا على أنها جزء من منطقة النفوذ الروسي التاريخي. التفاعلات الجيوسياسية والإستراتيجية، وما تقوم به روسيا من حشد القوات على حدود أوكرانيا، وتأجيج المواقف، وتبادل الاتهامات مع الدول الغربية وأميركا، تعيد إلى الأذهان رغبة موسكو ومحورية إيمانها بضرورة الهيمنة على دول الجوار؛ بذريعة الحفاظ على أمنها القومي ومصالحها الوطنية. ولا ريب في أنّ هذه الهيمنة تدخل في إطار إستراتيجية التفكير العسكري الروسي التقليدي منذ غزوها لهنغاريا عام 1956 وإشعالها ربيع براغ 1968، مع اختلاف الظروف والمقاربات، بمعنى أنّ روسيا تبحث الآن عن تفاهمات وترتيبات جديدة في العلاقات مع الغرب وحلف الناتو، ودفعهما إلى أخذ اعتبارات الأمن الاستراتيجي الروسي مأخذ الجِد، وتفعيل الاتفاقات الشفوية والمكتوبة لمنع الانزلاق إلى مواجهة عسكرية محتملة، لا سيما إذا تذكّرنا كيف تدخلت موسكو في أوكرانيا 2014 واحتلت شبه جزيرة القرم وأجزاء من أوكرانياالشرقية، فيما ظل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يردّد ويؤكد أنّ شبه جزيرة القرم تعد "جزءاً من روسيا إلى الأبد"، معتبراً في تصريحات له، أواخر العام الماضي، بأنّ ضم القرم يعني أنّ "بلادنا استعادت وحدتها التاريخية". روسيا، كما تثبت مختلف الوقائع، مصممة على بسط نفوذها على المناطق المتاخمة لحدودها؛ حيث تدخلت عبر "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" في إخماد المظاهرات في كازاخستان، الشهر الماضي، وهو ما أحدث تحولاً، ينبيء بأنّ "منظمة معاهدة الأمن الجماعي" ستحل محل حلف وارسو المنحل لدعم الحلفاء، وهذا أيضاً يصبّ في عمق الإستراتيجية الروسية لاستعادة النفوذ، وبلورة، ثم فرض واقع جديد لضمان أن تكون موسكو لاعباً وازناً ومؤثراً ومُهاباً في العلاقات الدوليّة. مشهد التوترات في العلاقات الدوليّة ينسحب كذلك على منطقة الشرق الأوسط، ويتمثل في استمرار الصلف الإسرائيلي، وإمعان دولة الاحتلال في بناء المستوطنات، ورفضها حل الدولتين، واستمرارها في ممارسة الفصل العنصري "أبارتهايد". ثمة توتر آخر في منطقتنا يتجلى في النزق التركي في سورية، وفاشية إيران وإمعانها في فرض هيمنتها من خلال تفريخ الميليشيات المسلحة التي تمارس القرصنة في البر والبحر والجو، في تحدٍ سافر للإرادة الدوليّة، ومع ذلك نجد أنّ الغرب، وعلى الأخص الدول الأوروبية، تحاول التودّد لإيران والتفاوض معها والسعي لمقاربات في فيينا في مسألة (JCPOA) بغية إيجاد آليات للتعاون الاقتصادي مع هذا النظام الثيوقراطي، وتجاهل ممارساته واستفزازاته وافتعاله الأزمات لزعزعة الاستقرار في المنطقة، فضلاً عن هزئه وعدم التزامه بأسس وقواعد العلاقات الدوليّة التي أكد عليها ميثاق الأممالمتحدة . العلاقات الدوليّة تواجه الآن مآزق فعلية متعدّدة تهدد الاستقرار العالمي وتدفعه إلى حافة التفجّر والانهيار، وهذا أمر بالغ الخطورة، ويتطلب المزيد من تعزيز تدابير الثقة، ومراعاة ترابط المصالح الدوليّة، وخلق مناخ إستراتيجي جديد بناءً على مسارات وسياسات احترام الدول وسيادتها واستقلالها وتوقير مصالحها الحيوية. العودة، كما نرى، إلى التابوهات العتيقة، والمجازفات غير المسؤولة، ودفع العالم إلى حافة الهاوية ستؤدي إلى تبعات مرهقة إنسانياً واقتصادياً وسياسياً، لا سيما وأنّ جراح العالم لم تبرأ بعد من جائحة كورونا. *كاتب سعودي ودبلوماسي سابق عبدالرحمن الجديع