على مدار الأسابيع الأخيرة قامت في سيمفيروبل عاصمة القرم تظاهرات متواصلة لآلاف التتر المحرومين من الجنسية الأوكرانية ومن حق المشاركة في الانتخابات النيابية الاخيرة، واستخدمت وحدات الجيش لتفريقهم. وكان ماكس فان ديرستول مندوب منظمة الأمن والتعاون الأوروبي اقترح على السلطات الأوكرانية السماح لمئة ألف ناخب تتري بالادلاء بأصواتهم حسب تأشيرة الاقامة الفعلية في شبه الجزيرة. واللافت ان هؤلاء التتر العائدين الى ديارهم وموطن أجدادهم، ومعظمهم من المهجرين سابقاً الى أوزبكستان، معدمون لا يملكون حتى امكانية التخلي عن الجنسية الأوزبكية رسوم هذه المعاملة 100 دولار. وما لم يتخلوا عنها لن يمنحوا الجنسية الأوكرانية بموجب القانون. والمفارقة ان السلطات ترغم الروس المقيمين في القرم، أباً عن جد، على التجنس بالجنسية الأوكرانية، فيما تمنعها على ربع مليون تتري عادوا الى وطنهم من المنافي السوفياتية، فيما تمنعها على ربع مليون تتري عادوا الى وطنهم من المنافي السوفياتية. والهدف من هذه التدابير واضح، فالروس أبناء عمومة مع الأوكرانيين، لأنهم جميعاً صقالبة أرثوذكس، ولأصواتهم في الانتخابات قيمة تفوق التقدير، خلافاً للتتر الذين تلاحقهم تهمة الانفصالية والتعصب. في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي العام 1991 شهدت شبه جزيرة القرم أحداثاً مثيرة تعود جذورها الى الصراع بين روسياوأوكرانيا على هذه البقعة ذات الموقع الاستراتيجي المهم شمال البحر الأسود. وتمكنت موسكو يومها من تنصيب حكومة برئاسة الاقتصادي الروسي المعروف يفغيني صبوروف، ثم نجحت في ايصال غينادي ميشكوف الى منصب رئيس الجمهورية، وساعد على فوزه في الانتخابات كون 90 في المئة من أهالي القرم يتكلمون الروسية. لقد ظلت هذه البلاد تحت الحكم العثماني طوال ثلاثة قرون 1475 - 1774. ثم ضمها الروس اثر حملة الأمير دولغوروكي إبان الحرب الروسية - العثمانية 1768 - 1774، وظلت ملكاً للقياصرة حتى حرب القرم 1854 - 1856 التي انهزم فيها الروس ليستعيدوها مجدداً في الحرب الروسية - العثمانية الثالثة 1877 - 1878، قبل ان تتحول في العهد الشيوعي منتجعاً ومصيفاً لكبار الموظفين السوفيات وأطفالهم. وعمد يوسف ستالين الى اخلاء القرم من سكانها الأصليين، ومعظمهم تتر مسلمون، وسفّرهم بالجملة الى آسيا الوسطى أوزبكستان. وبعد وفاته "أهدى" نيكيتا خروتشوف شبه جزيرة القرم الى أوكرانيا وهي لم تكن تابعة لها ادارياً. وعندما تعززت مواقع روسيا هناك في عهد صبوروف وميشكوف 1991 - 1995 تذكرت أوكرانيا انها فرطت في "الهدية" السوفياتية الغالية، فأقدمت على نقلة سياسية عنيفة ربيع العام 1995 جاءت بمثابة تدخل مباشر في شؤون القرم، حيث شطبت دستورها وألغت منصب رئيس الجمهورية ففقدت البلاد استقلاليتها وصارت مجرد طرف في المجال الحقوقي للجمهورية الأوكرانية بصفة مقاطعة ذات حكم ذاتي. وساعد على ذلك غياب الاعتراف الدولي بالقرم وضعف روسيا مادياً ومعنوياً وحيرة تركيا والبلدان الاسلامية أمام التطورات العاصفة في الاتحاد السوفياتي. ومضت أوكرانيا في بسط سيادتها على القرم من جهة البحر واستقدمت سفن الأسطول الأميركي السادس لاجراء مناورات بحرية في المنطقة، وبعد الاتفاق على مناورات "نسيم البحر - 98" التي سيجريها حلف الأطلسي الخريف المقبل على شواطئ البحر الأسود الأوكرانية، لكن المناورات ترتدي هذه المرة طابعاً "انسانيا" وتهدف الى حفظ السلام، بينما كان هدف المناورات المماثلة التي جرت العام الماضي على مقربة من سيباستوبول التدرب على مكافحة حركة انفصالية مزعومة في دولة وهمية اتضح فيما بعد ان المقصود بها القرم تحديداً، وقد أثار ظهور سفن الأسطول السادس في عقر دار أسطول البحر الأسود سخط روسيا، واليوم أيضاً يثير مخطط المناورات الجديدة استياء الروس، لا سيما ان الاتفاق على هذه المناورات بين أوكرانيا والأطلسي تم بعد يومين فقط من قمة يلتسن - كوتشما في موسكو في 26 - 27 شباط فبراير الماضي وجاء نقضاً لما اتفق عليه الطرفان في شأن الأطلسي. جزء من أوكرانيا ومن الناحية الادارية أعاد الرئيس الأوكراني كوتشما الى مجلس السوفيات الأعلى البرلمان في القرم حق تعيين وتنحية رئيس الحكومة المحلية بعد مصادقة رئيس الجمهورية الأوكرانية. وبذلك صارت البنى السلطوية في القرم جزءاً من نظام الحكم في أوكرانيا. وافتتحت حكومة كييف ممثلية لها في سيمفيروبل تتولى مراقبة نشاط السلطات المحلية وتوجهه مباشرة. وفي محاولة لاحتواء وتذويب الأكثرية الروسية في القرم و"أكرنة" الروس قسراً خرجت الحكومة الأوكرانية على الملأ ربيع العام 1996 بمشروع دستور جديد شكل صدمة للأوساط السياسية، اذ هو يلغي حتى الاسم السياسي لجمهورية القرم ذات الحكم الذاتي ويعتبرها مجرد وحدة ادارية تابعة لأوكرانيا من دون دستور خاص بها. واعتبرت حتى الأوساط المعتدلة ذلك غبناً بحق جمهورية القرم وانحيازاً صارخاً ضدها، فيما أعلنت القوى الراديكالية ان الدستور الجديد يلغي وجود القرم سياسياً ويحولها الى "مستعمرة أوكرانية". ومن القيود التي فرضت على شبه جزيرة القرم حظر نشاط الجمعيات والأحزاب الدينية، التي اضطر بعضها لوقف نشاطه السياسي أو الاستمرار انما بصفته فرعاً لحزب أوكراني مجاز. وقبل ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات النيابية بدأت السلطات الأوكرانية حملة مكثفة للتضييق على الأحزاب المعارضة والصحافة. وعلى رغم ان نشاط الأحزاب في القرم لا يزال ممنوعاً، لاحظ المراقبون تأثيرها الواضح عشية الانتخابات، وأشاروا خصوصاً الى نفوذ فرع الحزب الشيوعي الأوكراني في القرم وحزب النهضة وحزب الاتحاد اضافة الى المجلس التتري الاسلامي. الا ان شعبية الأحزاب الثلاثة الأولى لا تكفي لاجتياز عتبة الخمسة في المئة من عدد الناخبين التي تخولها دخول البرلمان حسب نظام القوائم الحزبية، مع ان حظها أوفر في مجال الترشيح الفردي. وعلى العموم فالطريق البرلماني مفتوح فقط أمام مدراء المؤسسات الصناعية والزراعية والأثرياء من رجال الأعمال الموالين لكييف. ويجد المجلس الاسلامي نفسه مرغماً على الدخول في صراع انتخابي على الصعيد الفردي ضد هذه الفئات. ولعل التربة السياسية في القرم كانت ممهدة لتيسير مهمة أوكرانيا في ممارسة ضغوطها المتنوعة حتى العسكرية على أهالي شبه الجزيرة. فالأزمة السياسية العميقة التي انتابت البلاد العام 1994 وتجلت في صراع التكتلات داخل البنى السلطوية حطمت القاعدة الاجتماعية للسلطة الاقليمية، فيما أسفر انقسام مجلس السوفيات الأعلى الى كتلتين احداهما موالية لأوكرانيا والأخرى تنادي باستقلال القرم عن شل البرلمان، ولم تعد كييف تخشى ميوله "الانفصالية". وعلى الصعيد الاقتصادي أدت الضغوط الأوكرانية الى الغاء اعتمادات الموازنة التي كانت تترك تحت تصرف القرم، فصارت الضرائب تحول أولاً الى المركز في كييف ثم يعود جزء ضئيل منها الى القرم مجدداً، مما أدى الى هبوط الناتج الاجمالي العام 1997 بعد ان كان مستواه أعلى مما في أوكرانيا عموماً. ويذكر ان الموارد السياحية للقرم، الى جانب موقعها الاستراتيجي وتركيبتها السكانية والدينية مبرر وجيه للصراع عليها. فمنتجعات القرم تتسع لثمانية ملايين من الراغبين في العلاج والاستجمام، الا انها تقدم خدماتها حالياً لنصف هذا العدد فقط. وفي مصيف يالطا وحده ثمة 170 مصحاً ومنتجعاً تقدر قيمتها الاجمالية بحوالي 90 بليون دولار. وقد بدأت في الأسابيع الأخيرة حملة تخصيص تلك المصحات وتمليكها، ما أدى الى تصاعد الصراع حتى بلغ حد الاغتيالات. في مثل هذه الظروف يتقاطر المسلمون التتر على القرم عائدين من منفاهم الستاليني في أوزبكستان. وبدأت العودة على نطاق واسع في نهاية الثمانينات، حين لاحت أولى بوادر سقوط الاتحاد السوفياتي الوشيك. ومع هذه العودة انتعشت الآمال في قيام دولة اسلامية جديدة في القرم. وكانت الحركة القومية الاسلامية في شبه الجزيرة انتظمت أولاً في اطار المنظمة الوطنية لتتر القرم التي تأسست العام 1988، ثم في اطار مجلس الشورى التتري الاسلامي الذي تألف العام 1991. إلا أن الحركة الاسلامية في القرم ليست متجانسة ولا متسقة. فثمة تنظيم تتري آخر يعارض بشدة توجهات المنظمة الوطنية والمجلس الاسلامي. وهو يتبنى تعاليم المفكر التتري اسماعيل جاسبرينسكي الذي "اكتشف" وجوهاً للالتقاء العقائدي بين الصقالبة والترك. الا ان المحللين لا يستبعدون امكان التعاون بين الجانبين في حال توافر ظروف مواتية. ويؤكدون في الوقت ذاته ان المبادرة الدينية في ايدي المنظمة الوطنية والمجلس الاسلامي، فهما يتمتعاون بنفوذ سياسي أكبر. وفي مؤتمرها الخامس الذي عقد في سيمفيروبول آذار/ مارس 1996 أكدت المنظمة الوطنية ان من مهماتها الأساسية الحصول على الاعتراف الدولي بحق الشعب التتري في وراثة نظام الدولة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتحويل الحكم الذاتي الهزيل في القرم الى كيان وطني واقليمي كامل الحقوق. وصيغت هذه المهمات بشكل أدق في مسودة النظام الداخلي لحزب العدالة التتري الذي يسعى الى تأسيس دولة وطنية في القرم استناداً الى حق الشعب التتري في تقرير المصير. فيما يعمل المجلس الاسلامي جاهداً لتحقيق هذه الأمنية. ويشير المراقبون خصوصاً الى الجهود الرامية الى افتتاح ممثليات للمجلس التتري الاسلامي في المنظمات الدولية الأممالمتحدة واليونسكو ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي. وكان السيد مصطفى جميلوف رئيس المجلس وأعضاء وفد الحركة الوطنية التترية التقوا مسؤولين كباراً أثناء زياراتهم للولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا. أما تركيا فتستقبلهم عادة على مستوى حكومي وفق مراسم استقبال كبار المسؤولين في الدول الأجنبية. ويلاحظ ان تركيا هي السند الأول للمجلس التتري الاسلامي في الخارج، فهي تمثله في المحافل الدولية وتؤمن له المعونات من خلال الهلال الأحمر وتوفر الفرصة لطلاب التتر لمتابعة دروسهم في المعاهد التركية وتبذل الجهود لتيسير افتتاح المؤسسات المختلطة بمشاركة رجال الأعمال من تتر القرم. وقد وعدت تركيا مؤخراً ببناء ألف دار لايواء التتر المعوزين. وثمة علاقات وثيقة تربط بين المجلس التتري في القرم والمجالس المماثلة في تركيا وعددها هناك يتجاوز العشرة وفي ألمانيا ورومانيا وبلغاريا وليتوانيا والولايات المتحدة. كما ان للمجلس ممثليات في طشقند وموسكو وكييف. وهو يمارس نشاطاً بين الشعوب الناطقة باللغات التركية في اسيا الوسطى والقوقاز ومنطقة الفولغا الروسية، خصوصاً تترستان وباشكورتوستان. وكان المجلس الاسلامي في القرم وقف الى جانب الشيشان في حربهم ضد الروس حتى ان عدداً من أعضائه قاتلوا في صفوف المجاهدين. وحضر السيد جميلوف مراسم تسلم أصلان مشهدوف مهام رئيس الجمهورية الشيشانية في شباط فبراير 1997. وعندما انعقد المؤتمر التأسيسي للحزب الاسلامي الأوكراني في 27 ايلول سبتمبر في مدينة دونيتسك شارك فيه المجلس التتري وانتخب السيد سليموف من سكان القرم نائباً لرئيس الحزب المذكور. الا ان تعامل المجلس الاسلامي مع أوكرانيا يشهد مداً وجزراً. فالمجلس اليوم يمثل في الواقع حكومة موازية للسلطات الرسمية الأوكرانية، لها دوائرها وقطاعاتها التي قد تغدو في الوقت المناسب نواة لدولة اسلامية تقوم في القرم. وعلى أية حال يبدو ان المبادرة في ما يخص الشأن التتري في القرم ليست في أيدي أوكرانيا، وإنما هي تعود في أغلب الظن الى تركيا. ويرى بعض المحللين ان تطور الأحداث في هذا الاتجاه يؤدي الى تشجيع تدخل دول اجنبية، مثل تركيا، في الشؤون الداخلية لأوكرانيا نفسها. ثم ان سمعة المجلس الاسلامي التتري المتزايدة تخلق انطباعاً لدى الرأي العام العالمي وكأن ثمة في القرم بنى سلطوية دينية متواجدة خارج نطاق المجال القانوني الأوكراني، وان هناك ما يبرر التعامل مع تلك البنى المباشرة على رغم اعتراضات كييف. وثمة نقطة اخرى تسترعي الانتباه في هذا المجال، وهي غياب العامل العربي الاسلامي، على رغم ان في القرم، الى جانب التتر والأتراك والروس، قوماً من أصل عربي يتكلمون لهجة عربية، لكنهم منسيون