"إذا كان لديك هاجس الإبداع وترغب أن تجسده بشكل متكامل عليك الابتعاد عن عصابة الفتك بالإنسان وقضاياه" (ف. ك) *** تفردت كتابات الكاتب الألماني التشيكي الأصل فرانز كافكا بسمة الكابوسية، والغرائبية التي تمثلت في شخوصه غير الطبيعية، والتي دائماً ما تكون خاضعة لعملية التحول التي يتقن الكاتب تقليبها وإلباسها اللبوس الملائم لها، وهو يمعن في إطلاق العنان لخياله لكي يصور ما يختلج في نفسه من دون أن يخضعه للمعاينة أو المراجعة، إذ يكتب ورقيبه الذاتي، أو المنظم لأفكاره يكون في إجازة قسرية، أو منفياً، حيث يبعده ولا يحسب له أي حساب، حتى أن كتاباته التي شُغِلَ بها غيره تنظيماً ونشراً لم يكن يريد لها أن تظهر للناس؛ لأنه قد حاول كسر العزلة النفسية التي كان يحبذها بلجوئه إلى الكتابة، والكتابة، ثم الكتابة في عملية تفريغ لشحنات مملوءة بالشطحات والرؤى المنطلقة تلقائياً من دون أن تكون قد خضعت لعملية تنسيق وتخطيط، فهي تداهم ومن ثم تجد القلم في استقبالها، يرسمها كما هي مملوخة من تجاويف الأفكار المتشابكة، وميزتها أنها تدفع المتلقي إلى أن يقرأ بذهول ولكنه محبب؛ لأنه يكرر القراءة. فرواية (المسخ) التي تتحول شخصيتها الرئيسة إلى صرصار له حواس تماثل حواس الإنسان في تصرفاته، وتحركاً وتفاعلاً مع الأحداث المروية على لسان الراوي - الذي هو (كافكا) - يجسد فيها حالات الانغلاق على المطويات النفسية الباطنية المتكونة من الحياة والمعايشة، هذه الشخصية تدعوك إلى القراءة المتكررة لاكتشاف ما وراءها، والمقاصد الدالة عليها، هذه الصفة المتحوّلة، أو المحوَّلة، تجر إلى التساؤل ما المقصود بها؟، فهي تمتلك مساحة واسعة من التفاسير لدى من يريد أن يجري وراءها، وعلى الرغم من كابوسيتها إلا أنها تحوي الطرافة المرة، الباعثة على التقزز، ولكنها تدفع إلى محاولة المعرفة لخلفيتها، إذ يذهب بعض الدارسين إلى أنها نوع من العبث المحبب لدى الكاتب، الذي وجد تسليته في الكتابة، بينما هو في مذكراته لا يخفي إعجابه بقراءاته لدستيويفسكي، وفلوبير، وشالز ديكنز، وهذه المذكرات ضمن الأعمال التي أوصى بألا ترى النور، وأنه يجب إتلافها، ولكن الموصى خالف كافكا ونشر كثيراً من الكتب والمذكرات والقصص، والمسرحيات، ما كون مكتبة كافكاوية اخترقت جميع أجواء العالم، وصار ذكر الكاتب ومؤلفاته ظاهرة كثر مقلدوها في أنحاء العالم. وقد حظي بإجماع عالمي على أنه كاتب مغاير وكبير وصاحب نقلة في فن الكتابة تخصه وحده، وعلى مر السنين وهو يُدْرَس، وتترجم له بعض الأعمال، ويكتشف المخبأ عند بعض الأصدقاء والصديقات، حتى أن هناك من شكك في بعضها بأنها بغير قلم كافكا، وأن هناك من الأعمال ما نسب إليه بغية كسب من ناشرين مفتقرين إلى الأمانة، ولكن المختصين والعارفين كانت لديهم ملكة قوية في الفرز، ما أدى بهم إلى عملية الغربلة والتصفية من الشوائب، حتى تولَّت الدور العالمية المعروفة نشر الأعمال المتوافرة وترجمتها، أو التي توافرت. وهناك من يقول إنه قد يظهر بعض المفقود لعدم الاهتمام من قبل كافكا نفسه بعمله، إذ يكتب ويكدس، ويمزق، ويعاود الكتابة، وينسى أين مكانها.. ومع هذا يكتب، وتماثل (المسخ) روايته (تحريات كلب) وهي رواية تندرج تحت مفهوم الرمزية عند بعض الناقدين، ولكن هناك من يرى أن شخصيات الكاتب دائماً ما تكون غرائبية، ودافعة إلى التساؤل ومحاولة الكشف، فهي تحتمل أكثر من تفسير وتعريف، ولا تخضع لمقياس نقدي معين؛ لكونها فوق المقاييس، إذ هي من يحدد ويجسم ويرسم المقاييس، وعلى المتلقي أن يحدد ما يريد حسب ثقافته وقدراته المعرفية، ومدى سعة أفقه الخيالي/العقلي. كتب كافكا (المحاكمة، القلعة، سور الصين، المسخ، رسالة إلى الوالد، تحريات كلب، المذكرات.. وغيرها من الرسائل إلى أصدقائه وصديقاته، وزوجته) وقد عده لوكاتش من أعظم كتاب العصر، وسيظل عالمه خاصاً به حيث لم يستطع أن يماثله أو يتمثله أي كاتب أو مبدع، من حيث تمكنه من ربط التراث الأدبي بالإبداع العصري، من دون أن يشير، ولكن أعماله السهلة قراءةً، والصَّعبة تفسيراً لأمكانية تفسيرها وتأويلها على عدة أشكال، فالرواية قد تتحول إلى مسرحية، والمسريحة إلى رواية، والقصة إلى مقالة، والمذكرات إلى قصص، وهذه قد تكون جزئية بسيطة عن أعمال الكاتب، فهناك من لم يزل يكتب عن هذا الكاتب المتفرد الغامض/ الواضح، وسيظل؛ لكونه خلق ليكتب بالرغم من عدم اعترافه بهذه الحقيقة التي لازمته من يفاعته حتى مغادرته الحياة، بتأثير داء السل وهو في مستهل الأربعينات من العمر، وقد خلف من الأعمال ما لم يخلفه من كان له ضعف عمره من الكاتبين. (السؤال المحيِّر: لماذا الحشرات، والحيوانات، والشخصيات غير السوية هي المرتكزات الأساس عند كافكا؟!)، فهناك كثيرون ممن يعملون على محاولة حل اللغز المغلف في دراساتهم الآدبية والنفسية من المهتمين بالإبداع.