يعتبر كثر من الباحثين والنقاد «يوميات» فرانز كافكا واحدة من أهم الوثائق الأدبية في القرن العشرين، إذ من دونها قد يكون من الصعب كثيراً فهم عالم هذا الكاتب الذي كان استثنائياً في زمنه ورائداً في مجال رسم صورة لإنسان القرن العشرين، في وقت لم يكن هذا الانسان قد وُجد، بعد، فيه... أي في وقت لم تكن فيه البيروقراطية وأنواع القمع السلطوي الحديث وأفكار مثل الاستلاب والاغتراب والانسان المحاصر وأجهزة الاستخبارات قد شقت طريقها الى علم الأدب والفكر، بعد. ونظرة الباحثين والنقاد هذه الى «اليوميات» ليست مخطئة ولا تحمل أية مبالغة بالطبع، إذ ان قراءة متمعّنة لها، ستضعنا حقاً أمام الخلفيات التي صيغت انطلاقاً منها نصوص كافكا. ومع هذا يمكن القول من دون أدنى مجازفة، ان ثمة الآن من بين هذه النصوص، عملاً لا يقل أهمية من «اليوميات» لمن يريد حقاً ان يلج عوالم هذا الكاتب، ويفهم، ليس فقط خلفيات كتاباته، بل عمق أعماقها أيضاً. وهذا العمل هو الكتاب المعنون «تحضيرات لعرس في الريف» والذي - مثل الأكثرية الساحقة من كتابات كافكا - لم يصدر في حياته، ولم يكن هو من اختار له هذا العنوان. بل انه لم يضعه أبداً على الشاكلة التي يوجد فيها. ذلك ان «تحضيرات لعرس في الريف» كتاب كوَّنه ماكس برود، صديق كافكا وناشره، الذي تولى منذ موت هذا الاخير باكراً، إصدار أعماله تباعاً وتقديمها وجمعها وأحياناً إعادة تركيبها وحتى قولبتها «إيديولوجيا»، في شكل حيّر كثراً من الدارسين. المهم في الأمر هنا هو ان «تحضيرات لعرس في الريف» يعتبر الآن كتاباً قائماً في ذاته... ويعتبر بخاصة: مدخلاً أساسياً لفهم أعمال كافكا. بل انه يضم بين صفحاته تلك الرسالة - الشهيرة الآن - التي كتبها كافكا في عام 1919، مقرّراً أن يرسلها الى والده، لكنه - غالباً - لم يفعل أبداً، فظلت بين أوراقه التي ستصل لاحقاً الى ماكس برود. وهي منذ ذلك الحين فقدت كينونتها كمجرد رسالة يود ابن أن يرسلها الى أبيه، لتصبح وثيقة أدبية نادرة... ولتصبح - بالأحرى - أفضل نص في السيرة الذاتية - الحقيقية - كتبه أديب في القرن العشرين... الى درجة أن كل الذين كتبوا سيرة حياة كافكا، بدءاً من ماكس برود نفسه مروراً بإرنست بويل وكلود دافيد وبياترو تشيتاتي وصولاً الى مارت روبير، استخدموا تلك الرسالة كنص أساسي يعتمد عليه. وتأتي أهمية هذه الرسالة من كون كافكا لم يكتبها كنص أدبي يريد أن ينشره، بل كنصّ أراد حقاً أن يرسله الى أبيه يفسّر له فيه علاقتهما والآلام التي كان الأب قد سببها له، وعلاقته بالدين (اليهودي) الذي أنشأه عليه، وبالمدينة (براغ) التي ولد وعاش فيها، وبالأدب الذي كان خوضه فيه عزاءه الوحيد. في تلك الرسالة الصادقة والحقيقية - من وجهة نظر كاتبها على الأقل - قال كافكا كل ما كان يمكنه أن يقول، ورسم المواضيع التي كانت - وستصبح أكثر وأكثر - علامات اساسية في مساره الكتابي، علماً أن كل هذا المسار إنما يبدو - مع التراجع الزمني - وكأنه تطبيق لما تحمله تلك الرسالة. ومن هنا، على رغم ان الرسالة هي في الأصل نصّ مكتوب ليرسل الى المرسل اليه (الأب)، فإن ماكس برود فضل ألا يضمها الى مراسلات كافكا التي نشرها على حدة، بل الى هذا الكتاب، بوصفها نصاً في السيرة الذاتية. ولسوف يروي ماكس برود ان كافكا طبع الرسالة في الأصل، خلال تشرين الثاني (نوفمبر) حين كان في مدينة شلسين في بوهيميا، على الآلة الكاتبة وصحّحها بيده قبل أن يرميها جانباً وينساها... ولكأنه أراد كتابتها أكثر كثيراً مما أراد إرسالها. ويقول برود أيضاً إن الرسالة كانت تتألف من 44 صفحة في كل منها 34 سطراً، أما «الصفحة 45 فكانت بيضاء تقريباً، حيث إن كافكا توقف عن الكتابة «لسبب غير واضح» وهو في منتصف جملة ثم أكمل صفحتين ونصفاً (قبل أن ينهي رسالته) مكتوبة بخط يده... إذاً، اعتبر ماكس برود «رسالة الى الأب» عملاً يقف خارج مراسلات كافكا، ضاماً إياه الى تلك النصوص والصفحات والملاحظات التي تكوِّن «تحضيرات لعرس في الريف». فما هو هذا الكتاب ومن أين جاء عنوانه هذا؟ أولاً، جاء العنوان من قصة طويلة كتبها كافكا في بداية شبابه، وتعتبر - من دون ريب - أول نص كتبه وحافظ على مخطوطته (يرجَّح انه كتبه بين 1908 و1909)، حتى من دون أن يكون أول ما كتب في حياته أصلاً، حيث من المرجح - وماكس برود يؤكد هذا على أية حال - ان فرانز كافكا كتب قبل قصته «الأولى» تلك نصوصاً وقطعاً عدة عاد وتخلص منها نهائياً، ما جعل المكان الأول تاريخياً لتلك القصة الطويلة التي أعطت الكتاب عنوانه، إذ افتتحه ماكس برود بها. لكنها - طبعاً - ليست كل ما في هذا الكتاب، إذ تليها نصوص منتزعة من دفاتر وكراريس متنوعة - لم يُنشر أو يُعرف أي منها خلال حياة كافكا - دوّن عليها هذا الأخير جملة تأملاته وملاحظاته على كل شيء كان يخطر له، وغالباً من دون أن يضع لها أية عناوين، علماً أنه اذا كان قد أبقى على بعض هذه النصوص غير مكتملة أو غير مصحّحة، فإن ثمة من بينها نصوصاً مكتملة تماماً وتضمّ خير مدخل لفهم أفكار كافكا خلال حقب متتالية من حياته. والى هذا ثمة في الكتاب مقاطع تتّسم ببعض الغرابة يذكر برود انه عثر عليها متفرقة مكتوبة على أوراق لا ترتبط في ما بينها، وكذلك عبارات مقتبسة من أفكار متنوعة وجدها كافكا هنا أو هناك خلال قراءاته. وقد أضاف برود الى هذا كله محاضرة كان كافكا ألقاها في عام 1912 بعنوان «خطاب حول لغة اليديش» أراد من خلالها أن يقدّم بعض شعراء عصره اليهود من الكاتبين بتلك اللغة، الى جمهور مستمعيه... أما أغرب ما في الكتاب فمخطّط لرواية عنوانها «ريتشارد وصمويل» لم تكتمل أبداً وقال ماكس برود انه كان اشتغل عليها شراكة مع كافكا، لكنهما لم يكملاها. إذاً، في شكل عام لدينا هنا مخططات واسكتشات ونصوص كاملة وأخرى غير كاملة، ومقتطفات... وكل هذه تكمن أهميتها في أنها تمكّننا من أن «نلتقط ميدانياً وفي شكل حيوي، خلفيات إلهام كافكا، لندرك المسار الذي اتخذته كتابته عاماً بعد عام، ومن أين كانت تأتيه الأفكار والمواضيع، حيث إن في إمكان قارئ كافكا الدؤوب، أن يجد في ثنايا المقاطع والملاحظات تفسيرات لعدد كبير من غوامض رواياته وقصصه الكبرى... وينطبق هذا بخاصة على تلك المقتطفات الصغيرة التي تحمل عنواناً عاماً هو «تأملات حول الخطيئة، والألم، والأمل والصراط المستقيم» وهي تشغل في مجموعها نحو 60 صفحة وتتألف من سلسلة من نحو مئة مقطع وتسعة مقاطع، كان كافكا قد صنفها ورتبها بنفسه... بحيث جعل آخر مقتطف منها يبدو على شكل استنتاج قد يشي بأمل ما كان يحرِّك الكاتب في ذلك الحين، وفيه يقول: «ليس من الضروري أن تخرج من بيتك. إبق الى مائدتك واستمع. بل لا تستمع... انتظر فقط. بل لا تنتظر... إبق صامتاً ووحيداً في شكل مطلق. فالعالم سيأتي ليطرح نفسه أمامك حتى تتمكن من نزع القناع عنه... هو الذي لا يمكنه إلا أن يفعل هذا، متحمساً، لاوياً عنقه أمامك». ويقيناً ان هذا كان فعل إيمان لدى فرانز كافكا (1883 - 1924) الذي كان، بالتأكيد، المفتتح الأهم للحداثة الأدبية في القرن العشرين، بما فيها مسألة التنوع الحضاري. فهو كان تشيكياً من أصل يهودي، ولد في براغ وكتب نصوصه كلها بالألمانية لا بالتشيكية. وقد عاش كافكا حياة قصيرة، قضى عليها المرض في نهاية الأمر، لكن تلك الحياة مكّنته، مع هذا، من كتابة بعض أعمق الأعمال الأدبية في زمنه... وهي، في معظمها، أعمال لا تزال «حديثة» وحيّة حتى الآن... وفي مقدمها رواية «المحاكمة» (التي ترجمت مراراً الى العربية آخرها - وأفضلها على الإطلاق - ترجمة إبراهيم وطفة، الأديب السوري الراحل الذي كان مقيماً في ألمانيا، والذي أرفق ترجمته بملف عن الرواية وصاحبها يتألف من مئات الصفحات، وذلك ضمن مشروع مميز لإصدار أعمال كافكا كلها)... ولكافكا أيضاً «القصر» و «سور الصين» و «أميركا» و «المسخ»... بين أعمال أخرى. [email protected]