من الذي يملك تراث كافكا؟ بل من يملك تراث أيِّ مبدع في العالم؟ ومن يحق له التصرف بممتلكاته الفكرية، من أوراق خاصة ومخطوطات وصور؟ هذه أسئلة تطرحها متابعةُ الجدل الذي يدور منذ ثلاث سنوات بين محكمة اسرائيلية ومواطنتين إسرائيليتين، وتشارك فيه مِن بُعد جهاتٌ أخرى في العالم مهتمةٌ بمصير تلك الأوراق. المحكمة كشفت أخيراً عن محتويات الصناديق المحفوظة في مصارف إسرائيل وسويسرا، وهي خطوة تحرِّك الدعوة قليلاً وتضيء تفاصيل هذا الإرث الذي يضم إضافة الى أوراق كافكا، أوراقَ صديقه الكاتب ماكس برود. والغريب أن الوريثتين لم تحصلا على تلك الوثائق عبر قرابة مباشرة بأيٍّ من الكاتبين، بل ورثتا كنزاً أدبياً من خلال والدتهما، سكرتيرة الكاتب الثاني، ويقال أيضاً، عشيقته السرّية. قبل أن يُتوفى الكاتب التشيكي الشهير فرانز كافكا بداء السل عام 1924 عن واحد وأربعين عاماً، أوصى صديقه ومعلمه ماكس برود بحرق كل أوراقه، وطلب إليه في الرسالة التي كتبها كوصية، ان لا يدع أحداً يطلع على تلك الكتابات. كان كافكا قد نشر كتابات متفرقة في الصحف والمجلات، وأصدر مجموعة قصصية ورواية (المسخ)، ولم تكن أيٌّ من رواياته الشهيرة قد رأت النور بعد. إلا أن برود، صديقَه وموجِّهَه وناشرَ سيرته لاحقاً، لم ينفذ الوصية، ولم يحرق أيَّ ورقة، وارتأى أن ينشر ثلاث روايات، هي: المحاكمة، القلعة، وأميركا، بين 1925 و1927، لينطلق بعدها اسم كافكا ويصبح من أشهر أدباء العالم في القرن العشرين. احتفظ برود ببقية الأوراق في صندوق خاص ببيته في براغ، ومع صعود النازية وتحولها الى قوة مدمرة يقودها هتلر، هرب برود في العام 1938 من المدينة ومعه أوراق صديقه، التي من بينها مراسلاتهما معاً، واستقر في فلسطين، حيث سبقه العديد من المهاجرين اليهود القادمين من أنحاء أوروبا. في فترة الخمسينات من القرن الماضي، أرسل برود بعض الأوراق الى ابنة أخت كافكا، فحفظتها في خزانة في مصرف سويسري، ثم انتقلت الأوراق الى جامعة أكسفورد بعد لقاء تم بين أكاديمي إنكليزي وابن هذه المرأة. أما ما ما تبقّى من أوراق تخص برود أو كافكا، فقد طلب برود من سكرتيرته وعشيقته إيستر هوف، قبل وفاته عام 1968، أن تكون الأوراق متاحةً لليهود، لأنها جزء من تراث شعبهم. خالفت إيستر هوف الوصية وأبقت الأوراق في حوزتها، واستثمرت بعضها، عندما باعت في 1988 المخطوطة الاصلية لرواية «المحاكمة» بمليوني دولار عن طريق دار المزادات سوذبيز. وبحسب صحيفة «لندن بوكس أوف ريفيو»، فإن ابنتيها روث وإيفا وايزلر، وريثتيها الشرعيتين بعد وفاتها عام 2007، عرضتا بيع ما تبقى من الأوراق بحسب الوزن لا بحسب أهمية كل ورقة، ورفضتا إطلاع الآخرين على محتوياتها، وكان العرض الذي ورد على لسان واحد من فريق المحامين الذي يمثل الشقيقتين، أن «الأوراق تزن كيلوغراماً وسنعرضها للمزاد بهذا الشكل وليس ورقة ورقة، ومن يقدم السعر الأعلى يحصل عليها». بالطبع أثار العرض استياءً في الأوساط المهتمة بأدب كافكا، وعلَّقت الأكاديمية الأميركية جوديث باتلر في محاضرة ألقتها في المتحف البريطاني: «إننا أمام حالة فريدة تقاس فيها أهمية أعمال المبدع من خلال الميزان». الا أن المكتبة الوطنية في إسرائيل راحت تنازع الشقيقتين على امتلاك الأوراق الخاصة بالكاتبين التشيكيي الأصل، مدعية حقها في الحصول على كل ما يتركه اليهود من موروث، لأنه في هذه الحالة يُعتبر ملكاً للشعب اليهودي، كما أن حفظ الوثائق عندها سيجعلها في متناول أي باحث يطلبها. وتم الرد على هذه الحجة بالقول إن كافكا كان يهودياً لكنه لم يعتنق الفكر الصهيوني على الإطلاق. وثانياً أن زيارة اسرائيل غير متاحة لكل شخص، اذ تمنع السلطات الاسرائيلية المعارضين لسياساتها من دخول أراضيها،على عكس الحال مع الجهات الأكاديمية ومراكز الارشيف والمتاحف في أوروبا المتاحة لكل الدارسين. ويصبّ هذا الرد في مصلحة «مركز أرشيف الأدب الألماني» في مدينة مارباخ بألمانيا الذي يضم أكبر أرشيف يخص كافكا في العالم، وهو الذي اشترى مخطوطة رواية «المحاكمة» آخر الثمانينات من إيستر هوف ودفع ثمنها مبلغاً كبيراً، وقد أوكل المركز محامياً في اسرائيل للدفاع عن ادعائه في هذه القضية. ويجادل المركز أن كافكا التشيكي الأصل، كتب باللغة الألمانية التي أحبها عندما درس في مدرسة خاصة - كانت لغة النخبة في براغ آنذاك - حتى أجادها وأبدع فيها، الى حد أن لغته وصفت ب «الألمانية الصافية» بحسب كثيرين، ومنهم الفيلسوفة الألمانية حنة أرندت. ويردّ بعضهم بالقول أن المطالبة بممتلكات كافكا الفكرية على هذا الأساس، تغمطه حقه كاتباً متعدد اللغات ولا يمكن حسبانه على لغة يكتب بها ولا يحمل جنسيتها. وتذكرنا الأكاديمية جوديث باتلر، أن كافكا لم يتخلَّ أبداً عن لغته التشيكية التي كانت لغة التحاور في البيت، ولا عن اليديشية - لغة اليهود في أوروبا الشرقية - التي حاول تعلمها في سن متقدمة وكان يحضر عروضاً مسرحية مكتوبة بها. القضية لا تزال مفتوحة، والنزاع قائماً ولا يمكن التكهن بالحكم الذي ستتوصل اليه المحكمة الاسرائيلية.