عندما تحضر حفلاً موسيقياً في دار الأوبرا في مصر، تنتابك مشاعر مختلفة، وأنت تسبح في ملكوت من الأنغام العذبة، بدءا من الملابس الرسمية وكامل الأناقة التي تجد نفسك وسطها منذ أن تحط قدماك تلك البوابة الضخمة وتدلف إلى البهو الأنيق وتمر من جهاز التفتيش وأنت تشعر أنك في حلم ‘لا تشعر بالازدحام ولا بحركة الجموع الغفيرة وهي تسير بمنتهى الوقار لتجد نفسك داخل المسرح الكبير يقودك فيه إلى مقعدك موظف وقور في ملابسه الرسمية الأنيقة. تغوص في المكان الغاص في الأبهة والجلال، وعندما يرتفع الستار تنتابك مشاعر أخرى مختلفة، وأنت تشاهد ذلك الجمع الكبير من أعضاء الفرقة الموسيقية وكل منهم اتخذ مكانه وآلته إما أنه يحتضنها بحدب أمومي، أو يجلس أمامها بإجلال، أو يمسكها بيديه برقة متناهية. لا تصدق أن تلك المشاعر التي سيطرت على الحضور تحولت إلى تصفيق شديد بمجرد وقوف الفرقة والمايسترو لتحيتهم. مهما قلت لا يمكنني شرح تلك الحالة التي حلقنا فيها مع تلك الأغاني القديمة بصوت المطربة مروة أبدعت صوتاً وأداء رغم صعوبة الألحان لمحمد الموجي، أحمد صدقي، رياض السنباطي، عمار الشريعي، وزكريا احمد، إلا أنها تمكنت مع فرقة عبد الحليم نويرة بقيادة صلاح غباشي من إحياء ذلك الزمن الجميل زمن الطرب الأصيل. دمشق حضرت محفوفة بالشجن ودموع فرت من المآقى قسراً وسط ذلك الجو البهيج عندما قدم الفنان السوري صفوان بهلوان قصيدة دمشق لأمير الشعراء أحمد شوقي إلقاءً ثم غناءً رائعا،تلك اللقطات أو المشاهدات ليست كل الحفل ولكنها البداية التي تؤكد هذه المكانة التي تحتلها الموسيقى في وعي الشعوب إلا نحن فهي محرمة ومحاربة وممنوعة وأنا على ثقة بان هناك من يستنكر كتابتي هذه ويعتبرها مجاهرة بالمعصية لأن عقولهم ملئت بمغالطات كثيرة راسخة كالجبال مع أن بعضهم تخلى عنها نتيجة الفتاوى التصحيحية التي أزالت التحريم عن الموسيقى والاختلاط وكثير من المحرمات القديمة التي حرمت بفتوى حللت بفتوى لاحقة وهكذا. رغم أني حضرت حفلات كثيرة في دار الأوبرا المصرية لمطربين كبار وحضرت عرضاً لأوبرا عايدة وعروضاً لأفلام قصيرة مع نقدها وتحليلها بحضور جمع كبير من الفنانين والفنانات والنقاد السينمائيين وكانت تجربة مثيرة بالنسبة لي وقتها إلا أني جبنت عن تناول تلك التجارب المهمة في مقالاتي ربما لأني كنت أخشى من تلك الممانعة والتحريم القاطع ولولا تصريح نائب وزير التربية والتعليم المنشور في الحياة حول السماح للمدارس باستخدام الموسيقى في العروض المسرحية المدرسية ربما قدمت رجلاً وأخرت أخرى قبل أن أقدم على هذه المجازفة وأتحدث عن منكر وأستعرض حضوري لهذا المنكر. يقول الخبر في الحياة : ( كشف نائب وزير التربية والتعليم حمد آل الشيخ أنه لا يوجد مانع من استخدام الموسيقى في العروض المسرحية داخل المدارس، مشدداً على ضرورة تفعيل مثل تلك الأنشطة، لتعزيز الثقافة المسرحية عند الطلاب) رغم أن التصريح شجعني على الكتابة عن الموسيقى إلا أني أتمنى أن يكون دخول الموسيقى المدارس ليس فقط للاستخدام المسرحي لأن هذا يعني ان الطلبة لن يتعلموا شيئاً وأن المدارس ستلجأ إلى التعامل مع فرق موسيقية خارجية تمثل عبئاً مادياً على المدارس والوزارة وأيضا تسمح بدخول أشخاص ربما لا يصح دخولهم واختلاطهم بالطلبة. لماذا لا تدرس الموسيقى في المدارس وتكون من الحصص الحرة كي لا يوجد مبرر لرفضها لأن هناك من رسخ في ذهنه حرمانية الموسيقى ، ويرفض تعليمها لابنه أو ابنته، وفي هذه الحالة - ولا اظنها قليلة في مجتمع لا يزال معبأ الوعي بالمحرمات- لابد من مراعاة هذه الذهنيات والقناعات، وفي نفس الوقت إعطاء حق الاختيار وحرية التعلم والممارسة لمن يرغب وعلى الوزارة تقع مسئولية هدر المواهب المختلفة، إن هي اعتمدت إدخال الموسيقى فقط دون تدريسها، لأن كل موهبة تمثل لبنة أصيلة في بنية النهضة الحضارية لذلك لا يكفي استخدام الموسيقى في المسرح المدرسي. قبل أعوام حضرت حفل الموسيقى العربية في نادي الصيد بالقاهرة وفوجئت أن كل العازفين والعازفات هم أبناء وبنات الأسر الأعضاء تم تدريبهم على أيدي أساتذة متخصصين لاكتساب المهارة وتنمية الموهبة وليقدموا حفلات النادي أمام آبائهم وأمهاتهم وأحبتهم ونظرات الفرح والسعادة والفخر تغمرهم. الحفل مجاني للأعضاء وفي جو عائلي دون خوف أو ريبة استمتعنا ليلتها بأمسية رائعة لا تقل عن حفلات الأوبرا إلا في المكان فقط! [email protected]