1 - 3 السيرة: من سار او من السير على الخلاف المعروف بين اللغويين في اصل المشتقات بمعنى: مشى وذهب في الأرض، والسِّيرة بكسر السين: السُّنَّة والطريقة والهيئة، يُقال: هذه سيرة فلان، أي: طريقته وسُنَّته، وسار الأمير في الرعية سيرةً حسنة أي: طريقة حسنة، وأَحسَنَ السَّير: أي هيئة المسير, وقد اطلق العرب كلمة سيرة على ما كُتب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم واتسعوا في مدلولها فأطلقوها على حياة بعض الاشخاص كسيرة ابن طولون، وسيرة صلاح الدين الأيوبي، ومحمد بن سبكتكين، والظاهر بيبرس وغيرهم، ولعل اول سيرة أُلفت بعد سيرة الرسول الكريم كانت من تصنيف عوانة الكلبي المتوفى سنة 147ه كما ذكرها ابن النديم رحمه الله في الفهرست تحت عنوان: سيرة معاوية وبني أمية . والسيرة في محيطها الادبي الواسع نوعٌ أدبي يكون فيه ملتقى الحق الفني بالحق التاريخي، ويراد بها: درس حياة فرد من الافراد ورسم صورة دقيقة لشخصيته ، أو هي نوع ادبي يتناول بالتعريف حياة إنسان ما تعريفا يطول او يقصر ، وقد وصفها المفكر الإنجليزي توماس كار لايل بمنتهى الايجاز والتركيز فقال: السيرة: حياة إنسان ، وقد نعتت الموسوعة الأمريكية هذا الوصف بأنه أوجز تعريف للسيرة. والسيرة أقدم استعمالا في التراث العربي من كلمة ترجمة من حيث مدلولها في تتبع حياة شخص من الاشخاص فالأولى استعملها محمد بن اسحاق في تاريخ حياة الرسول عليه السلام ثم انتقلت من المعنى الخاص الى العام كما أُشير آنفاً، والمعاجم العربية القديمة تغفل استعمال كلمة ترجمة للدلالة على تاريخ الحياة، ولكن المعاجم المعاصرة تستخدمها بهذا المعنى، وفي المعجم الوسيط وصفت كلمة ترجمة بأنها كلمة مولدة، أي: أنها استعملت بعد عصر الرواية. ويظهر ان اصطلاح ترجمة قد دخل العربية عن طريق الآرامية، ولم يستعمل بهذا المعنى إلا في اوائل القرن السابع الهجري حين استعمله ياقوت الحموي في معجمه الذي خصصه لذوي التأليف من الادباء، ولذلك مال بعض الباحثين الى التفرقة بين المصطلحين على اساس الاستعمال وحده، لأنه ليس في الفروق اللغوية ما يُبين الفرق بينهما على وجه التحديد، فاستعملوا كلمة ترجمة حين لا يطول نَفَسُ الكاتب فيها، فإذا ما طال النفس واتسعت الترجمة سميت: سيرة، ويرجح الاستاذ عبدالله الحيدري استعمال مصطلح السيرة ويرى انه اولى من استخدام مصطلح ترجمة ، لأن استخدام لفظ (سيرة) اسبق في اللغة من استخدام كلمة ترجمة ولأن كلمة سار معجميا تدل على السير والانتقال من مرحلة الى مرحلة، وتعني طول الطريق والانتقال من طور الى طور، وهو مايتفق تماما مع الكتابات الذاتية التي تؤرخ لسيرة الإنسان وانتقاله من مرحلة الطفولة إلى الشباب، إلى الكهولة، فالشيخوخة، كما اننا نجد في السيرة الذاتبة مراحل متعددة يصفها الكاتب كالدراسة والحياة العملية والرحلات والزواج,, الخ, ولذلك فإن مضمون الكتابة في هذا الفن يبدو وشيج الصلة بمصطلح سيرة اكثر من انسجامه مع مصطلح ترجمة الذي يطلق على صفحة يكتبها المرء عن نفسه، او حتى على ما أسطر معدودة. وقد استطاع نقدنا العربي الحديث استيعاب المصطلحين المتجاورين Biography Autobiography يحاكيها لفظا فيقول السيرة الغيرية لBiography والسيرة الذاتية ل Auto Biography، وان ظلت المترادفات اشكالية تعوق تموضع الاصطلاح في محله من الاستعمال والانتشار، ويستعمل مصطلح السيرة الغيرية للدلالة على: الكتابة عن شخصية من الشخصيات المعروفة على مستوى الفن والادب او الاجتماع او السياسة او أي مجال من مجالات التفوق الإنساني، وتعمد الترجمة عادة إلى جلاء جوانب النبوغ في الشخصية المترجم لها,, او هي بتعريف باحث مصري: البحث عن الحقيقة في حياة إنسان فذ، وكشف عن مواهبه وأسرار عبقريته من ظروف حياته التي عاشها، والاحداث التي واجهها في محيطه، والأثر الذي خلفه في جيله, أما السيرة الذاتية فمتضمّنة على الاجمال التعريف بهويتها، إذ الاسم الذي يطلقه الإنسان كما يقول الفلاسفة يخلع على الشيء هويته، غير ان هذا الإحساس بهوية السيرة الذاتية، وانها بخلاف السيرة الغيرية لا يكفي ولا يشفي في بحث علمي، بل لابد من التحديد الدقيق لاستعمال المصطلح عند الباحثين والنقاد، لاسيما وان التَّعرُّف الى السيرة الذاتية وتحديدها سوف يؤسس لنا القاعدة التي ننطلق منها او نعتمد عليها في تجنيس الأعمال التي نتعامل معها او نقرؤها. بادئ ذي بدء يصطدم الباحث بعبارات مثبطة تدعو الى القعود عن العمل على ايجاد تحديد مرضٍ لفن السيرة الذاتية، بدعوى ان السيرة الذاتية جنس ادبي جديد لا يتجاوز عمر مصطلحه القرنين على وجه التحديد وان الوقت لم يحن بعد لصياغة تعريف محدد وشامل ومقبول للسيرة الذاتية. ولكن الباحث اذا تجاوز بعض الدراسات التي آثرت السَّلامة فناقشت الموضوع باستفاضة ولكن دون تحديد لأدنى تصور للسيرة الذاتية، سوى انها خلاف السيرة الغيرية فإنه لا يلبث ان يجد نفسه بإزاء اقتراحات متعددة تجتهد لتوصيف السيرة الذاتية، ويمكن للباحث ان يقسم تلك المقترحات الى اتجاهين عامين رئيسين تندرج تحتهما الاجتهادات المقترحة لتوصيف السيرة الذاتية: الاتجاه الأول: يعتمد في تعريفه للسيرة الذاتية على متون أعمال السير الذاتية، أي: نصوصها لذلك تباينت المفاهيم وتشعبت التصورات بحسب المتون/ النصوص التي خضعت للوصف والدراسة. وتستطيع الدراسة ان ترد هذا الاتجاه الى عدة أقسام: أ: القسم الأول: يغلب عليه طابع المرونة حيث جاءت حدوده فضفاضة واسعة تنظر الى السيرة الذاتية باعتبارها تأريخا للحياة يكتبها او يمليها صاحبها، ثم لا تأخذ في الحسبان شيئا بعد ذلك. وأول ما وقع عليه الباحث من هذه التعريفات باعتبار تاريخ النشر، هو تعريف الدكتور عزالدين إسماعيل في كتابه الادب وفنونه حيث قال: ترجمة الحياة الشخصية وذلك عندما لنا الكاتب ترجمة حياته هو الخاصة، وهي عندئذٍ تسمى ترجمة ذاتية Auto biography . ويتفق معه الاستاذ جبور عبدالنور في معجمه الادبي حيث يصفها بأنها كتاب يروي حياة المؤلف بقلمه وهو يختلف مادة ومنهجا عن المذكرات واليوميات . ولا يختلف الباحثان الدكتور مجدي وهبة ورفيقه كامل المهندس في تصورهما عما سبق فالسيرة الذاتية لديهما مجرد: سرد متواصل يكتبه شخص ما عن حياته . وكذلك الامر عند الدكتور محمد الشنطي حيث يعرفها في كتابه الادب العربي الحديث بأنها التي يُترجم فيها الكاتب لنفسه . وهذه التعريفات على عمومها لا تحدد ضابطا واضحا وهي وان كانت تعريفات عامة مقبولة تشير من بُعدٍ الى السيرة الذاتية إلا انها لا تُميزها عن ألوان ادبية اخرى تختلط بها مثل: المذكرات والذكريات واليوميات والاعترافات,, الخ. ب أما القسم الثاني: فينحو فيه اصحابه الى تحديد اكثر ايجابية اذ يشيرون الى بعض خصائصها الفنية، وأول ما يقع عليه الباحث في هذا الصدد تعريف الدكتورة رشيدة مهران، حيث تقدم للقارئ تصورين عن السيرة الذاتية احدهما عام تقول فيه: الترجمة الذاتية تفاصيل حياة شخصية يكتبها صاحبها بنفسه . وهو تعريف لا يختلف عما اشرنا اليه في القسم الأول، أما التصور الثاني فتشير فيه الى سمة مهمة ترى الباحثة وجوب اشتمال السيرة عليها فيما يظهر من تعريفها وهي: الامتداد الزمني تقول: الترجمة الذاتبة هي ان يكتب إنسان تاريخ حياته مسجلا حوادثها ووقائعها المؤثرة في مسيرة الحياة متتبعا تطورها الطبيعي من الطفولة الى الشباب ثم الكهولة . ويضيف الدكتور محمود ابو الخير سمة اخرى الى ما تذكره الدكتورة رشيدة مهران، وهي: الاعتماد على مصادر مساعدة في الترجمة للذات، وكأنه يشير الى ضرورة ان يكون الكاتب قد سجل انطباعاته واحداث حياته في مفكرة او يومية قبل الشروع في كتابة سيرته لنفسه والتأريخ لها داخليا او خارجيا، يقول: الترجمة الذاتية هي: ان يكتب المؤلف بنفسه تاريخ نفسه، فيسجل له حوادثه واخباره، ويسرد اعماله وآثاره، ويذكر ايام طفولته وشبابه وكهولته، وما جرى له فيها من احداث تعظم او تضؤل تبعا لأهميتها، أي انها تبدأ من اصل الاسرة والطفولة ثم تتدرج حسب ادوار العمر، تسجل فيها الوقائع يوما فيوما او دفعة واحدة بصورة متقطعة بعد ان تجمع عناصرها من مصادر متعددة . وإذا كان الدكتور محمود ابو الخير في تعريفه السابق يُفسح المجال للكاتب بشأن التقيّد بالتسلسل الزمني للأحداث او عدمه، فإن الدكتور التونجي يلمح في تعريفه المقتضب الى ضرورة التزام التسلسل الزماني في السيرة الذاتية حيث يقول في معرض توصيفه لها هي: سرد قصصي يتناول فيه الكاتب ترجمة حاله، وما يعترض حاله من معضلات وشدائد، محاولا تتبع الاحداث زمنا وأهمية . أما الدكتور ابراهيم السامرَّائي فيركز في تعريفه على ثلاث قضايا أساسية وهي: الاعتراف، والشمول، والامتداد الزمني حيث يصفها بأنها ترجمة الأديب الكاتب عن نفسه فيتعرض لسيرته ابتداء من مولده ومدرجه واين عاش وكيف شق طريقه في الحياه وما عرض له من احداث سارة ومحزنة، وهو يمر على اسرته فيتحدث عما كان في صباه مع والديه، ويتجاوز ذلك الى سائر افراد اسرته ثم ينظر الى علاقاته بالناس اصدقاء واعداء. وصاحب السيرة الذاتية يفصح عن اسراره وما يكنه في دخيلة نفسه، وقد يكون في هذا ضرب من اعتراف بالحسن والسيء وما أحسن فيه وما اقترفه من عيوب . والى نحو ذلك يذهب الاستاذ الحقيل في تعريفه لها حيث يصفها بأنها: نوع من أنواع الأدب وتتميز بأن كاتبها يكشف عن خبايا نفسه ويعرض حياته وتربيته وأساليب تعامله وما اعترى حياته من تجارب وخبرات وذكريات وممارسات، وما واجهه من متاعب وما صادفه من مواقف مثيرة، وكذا توضيح الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي لازمت مسيرة عمله، بحيث يكون عرضة لتلك السيرة متسما بالوضوح والصراحة، التي تعينه ان يخرج من ذاته ويقف من نفسه موقفا موضوعيا، ولا يخشى مواجهة تلك الاشياء التي مرت في حياته مهما كانت صغيرة او كبيرة فهي تعبير عن موقف كاتبها واتجاهه وما يدور في مجتمعه من امور وقضايا . وعلى كل حال فهذه التعريفات جميعها مع الاحترام لشخوص من صدرت عنهم تميل الى الإنشائية اكثر من الوصف والتحديد الدقيق، وتنصب على الجانب المعنوي من السيرة بالدرجة الاولى، ولا تكاد تتعرض للشكل الادبي الذي تُزَفُّ من خلاله السيرةُ الى القارئ. ج أما القسم الثالث: فهو لا يقترح تعريفا بالمعنى الدقيق، ولكنه يذكر شروطا فنية تُميِّز السيرة الذاتية عن غيرها من الفنون كالسيرة الغيرية من جهة والذكريات والمذكرات والمفكرات واليوميات وغيرها من جهة ثانية, وهذه الشروط توضح الى حد بعيد تصور واضعيها لما ينبغي ان تكون عليه السيرة الذاتية، وهو تصور يتصف بالتشدد وتضييق النظرة، واستحضار الشرط الفني المثالي وتعميمه من اجل توصيف دقيق للسيرة الذاتية. وهذا في وجهة نظري أمر لا ينبغي الغلو فيه على هذا النحو، لأن العناصر الفنية الدقيقة يجب ان تبقى مجالا خصبا للتنافس بين الادباء داخل الجنس الواحد، ولا يصح ادخالها شروطا او ضوابط في التصور الذي يقوم عليه التحديد لأن من شأن ذلك ان يعوق النزعة الى التجديد والتجريب وينفي عن السيرة الذاتية أعمالا ادبية جيدة لمجرد انها لا تحقق هذا الشرط او ذاك، والصحيح ان يكون التعريف المقترح عاما وجامعا ومانعا بالقدر الذي تحتمله الدراسات الإنسانية عموما فيشتمل على المكونات الاساسية والمميزة لهذا الفن عن غيره. ولذلك لم ينجح أيٍّ من هؤلاء برغم دورانهم الطويل حول طبيعة الفن في اقتراح تعريف محدد يوضح هوية السيرة الذاتية، وهذا ناجم عن عدم مقدرتهم على السيطرة عليه تماما، وذلك نتيجة طبيعية ومتوقعة للمغالاة في الشروط الجمالية الفنية. فالدكتور إحسان عباس مثلا في كتابه فن السيرة يعقد فصلا عن السيرة الذاتية بعنوان: السيرة الذاتية نظرة عامة يصف فيها قرب صاحب السيرة من القارئ، وثقة القارئ به واستساغته لحديثه عن نفسه، ويُبين ان كل سيرة ذاتية في حد ذاتها تجربة ذاتية لفرد من الافراد، فإذا بلغت دور النضج وأصبحت في نفس صاحبها نوعا من القلق الفني فإنه لابد ان يكتبها، وان هذه التجارب إما أن تكون جسدية او روحية، وليس هذا عند الدكتور إحسان عباس بكافٍ وحده بل إن السيرة تتطلب لرواجها ان يكون بطلها شخصا ذا تميز واضح في ناحية من النواحي، وتكون سيرته ذات حظ من عمق الصراع الداخلي او من شدة الصراع الخارجي، وان تكتب على اساس من التطور الذاتي في داخل النفس وخارجها، ومن ثم قد تجيء السيرة الذاتية صورة للاندفاع المتحمس والتراجع أمام عقبات الحياة، وقد تكون تفسيرا للحياة نفسها، وقد يميل فيها الكاتب الى رسم الحركة الداخلية لحياته مغفلا الاهتزازات الخارجية اهمالا جزئيا، وقد تكون مجرد تذكر اعترافي موجه الى قارئ متعاطف مع الكاتب وقد تمتزج هذه العناصر على انصباء متفاوتة اما إذا اقتصر الكاتب على تدوين مذكراته او يومياته او وجّه سيرته لتصوير احداث اكثر من تصوير ذات فإن عمله حينئذ يلتقي مفهوم السيرة الذاتية وليس هو. ثم يأخذ الدكتور في بيان أوجه الفروق بين السيرة الذاتية والغيرية مما لا يهمنا هنا بيانه، لاعتقادنا بأن الفرق من الجلاء والوضوح بحيث يكفي فيه القول: إن السيرة الغيرية يكتبها شخص عن آخر والسيرة الذاتية يكتبها الشخص عن نفسه. اما الدكتور ماهر حسن فهمي فيشير الى ان: كاتب السيرة لا يجمع اكواما من المعلومات غير المنسقة، ولا يكتب يوميات لا بأس فيها بالتكرار ولا بالتفاهات، فكاتب اليوميات يمكن ان يمتعنا بالحديث عن وجبة بينما كاتب السيرة الذاتية رغم التزامه بعرض صغائر التجارب يختار وينتقي وينسق، ويحلل ويربط، ومعنى هذا انه لا يمكن ان يكون فوتوغرافيا في رصده يعرض علينا مجموعة الصور وعلينا نحن ان نبحث عن الوحدة بينها ونتعمقها ونقيم من خيالنا اطارا يجمعها، ولكنه يعرض علينا سيرته خصبة حية كما عاشها، يعرض علينا قصة حياته كما مثلها، يعرض علينا سيمفونية رائعة لم يوضع اللحن الواحد بجانب الآخر إلا تبعا لقوانين الانسجام، ولم تختلف النغمة عن النغمة شدة ونوعا إلا حسب ما تقتضيه قواعد التأليف، وبذلك يدخل الاطار الفني ليقيم جسرا من الخيال تَعبر فوقه الحقيقة وهو هنا عنصر جوهري ولكنه في الوقت نفسه محدود بحدود الحقيقة، توازن دقيق بينهما لا يطغى فيه الخيال أبدا على الواقع والحقيقة بل ولا يزحزحها عن موقعها غير انه قد يلونها بألوان الطيف فيزيدها بريقا ولكنه لا يغير معالمها. ولابد للسيرة من جانبين اصليين: جانب إنساني وجانب فني، ويتجلى الجانب الإنساني في عمق الصراع الداخلي او الخارجي بمعنى ان حياة كل إنسان تعتريها فترات من الركود، فإذا كثرت هذه الفترات حتى طبعت الحياة لم تكن للسيرة الذاتية قيمة كبيرة، ولكن الحياة المليئة بالصراع هي التي تستحق التسجيل والقراءة، وقيمة الفن هنا تأتي من عملية الصياغة فلا يكفي ان تكون أمامنا كومة من الاحجار والاخشاب والحديد ونتصور بيتا، ولكن التشكيل هو الذي يعطي هذه الموارد روحا. ويأتي الى الشكل المناسب للسيرة الذاتية فيقترح الشكل الروائي حيث يقول: بغير اساس فني يتداخل الزمان والمكان، وتتبعثر الاحداث وتخرج السيرة في شكل ذكريات متقطعة، ولو سار كاتب السيرة الذاتية على اساس تاريخي لوجد نفسه أمام معضلة فالحدث قد يبدأ ثم يتم بعد ذلك في مرحلة زمنية متأخرة وفي مكان آخر، فإذا كثرت مثل هذه الاحداث ولابد ان تكثر ارتبكت السيرة وتقطعت ولكن البناء الروائي على سبيل المثال يُنقذ كاتب السيرة,, ويواصل تصوره عن السيرة الذاتية مُركزا على عنصرين: التشويق وبروز الشخصية فيقول: وليس الأمر في السيرة الذاتية امر سرد للأحداث، لأن كاتب السيرة يدرك انه يعرض رحلة الحياة فلابد إذاً من حس قوي بالكشف، حس الرحالة الذي يشم رائحة الخطر فيستعد له، وحس الفنان الذي يوجهه دائما نحو المجهول ويجلو ابعاده، والسيرة الذاتية سيرة أعمال ولكنها سيرة إنسان يعمل وعلى ذلك تكون الشخصية قبل الحدث,, والكلام له قيمته النقدية والفنية التي لا تُنكر، ولكن اين تعريف السيرة الذاتية؟! وكيف افرق بينها وبين اليوميات والمذكرات والذكريات وغيرها؟! وهل البناء الروائي فعلا هو الرداء الوحيد الذي ينبغي ان تخطر فيه السيرة الذاتية حين تخرج الى الناس؟! وما حكم السيرة الذاتية التي كُتبت على هيئة مقالات متتابعة او حلقات متصلة أو فصول مترابطة؟! واين نضع تلك السيرة الذاتية المشتملة على كل ما ذكر الدكتور الفاضل الا عنصرا او عنصرين؟! هل نخرجها من السيرة الذاتية ام ندخلها فيها على مضض ام ترانا نعقد لها جنسا مستقلا ونلحقها به؟!!. إنه ولاشك تصور مثالي جدا ينظر الى اعمال متميزة حققت قدرا رائعا من التماسك والترابط والجمال في رؤية الفن والتشكيل، غير ان الأعمال المثالية التي استقى منها الباحث الكريم وغيره من اصحاب هذا الاتجاه تصورهم هي للأسف الاقل بالنسبة للأعمال الاخرى التي تؤرخ لذات الكاتب، فهل يرتبط مفهوم السيرة الذاتية بهذه المتون الادبية المثالية دون غيرها؟!! وممن يسير في هذا الاتجاه الدكتور يحيى عبدالدائم حيث ينبه كما فعل الباحثان الدكتور احسان عباس والدكتور ماهر حسن فهمي الى ان الترجمة الذاتية وهي ما يَصطلِح عليها في دراسته للسيرة الذاتية ليست المذكرات وليست الذكريات وليست اليوميات ولا الاعترافات، وليست هي ايضا الرواية الفنية التي تستمد احداثها ووقائعها ومواقفها من الحياة الخاصة لكاتبها، فكل هذه الاشكال كما يقرر عبدالدائم فيها ملامح من الترجمة الذاتية وليست هي لأنها تفتقر الى كثير من الأُسس التي تستند عليها الترجمة الذاتية الفنية. ثم ينتهي الدكتور عبدالدائم الى نتائج تصلح كما يرى لأن تكون أُسُساً فنية لهذا الجنس، وتمنحنا مفهوما له خصائصه المميزة فيقول: وأخصّ ملامح الترجمة الذاتية التي تجعلها تنتمي الى الفروع الادبية ان يكون لها بناء مرسوم وواضح، يستطيع كاتبها من خلاله ان يُرتب الأحداث والشخصيات التي مرت به، ويصوغها صياغة ادبية محكمة، بعد ان يُنحي جانبا كثيرا من التفصيلات والدقائق التي استعادتها ذاكرته، وافادها من رجوعه الى ما قد يكون لديه من يوميات ورسائل ومدونات تعينه على تَمَثُّل الحقيقة الماضية . ثم يأخذ في الحديث عن الصدق فيذكر: ان الصدق المطلق أمر غير وارد في الفنون حتى في السيرة الذاتية، ولكنها يجب ألا تخلو من تحري الصدق، وان تُحقق على الاقل الصدق النسبي مادام ان هناك عوائق تعترض سبيل المترجم لنفسه، وتحول بينه وبين نقل الحقيقة الخالصة، ثم يقف أمام تصوير الصراع والترتيب الزمني قائلا: من ابرز ملامح الترجمة الذاتية الى ما ذكرناه تصوير الصراع بضروبه المختلفة، تصويرا يطالعنا الكاتب من خلاله على دخائل نفسه واثر احداث الخارج في حياته النفسية والشعورية والفكرية، مظهرا من خلاله ينعكس على مرآة ذاته من وقائع الماضي واحداثه خيرا كان أم شرا، مراعيا في عرضه ما يطلعنا على مدى ما حدث في شخصيته من نمو وتحول على مراحل العمر المتعاقبة ملتزما تواتر الايام وتدرج التاريخ,, وواضح ان هذا التصور الذي اعرب عنه عبدالدائم يلتقي التصور الذي ألمحنا اليه آنفا عند كل من عباس وفهمي وواضح ايضا انه تصورٌ بعضه من بعض وأنه قائم على اساس استحضار الشكل الروائي أساسا لما ينبغي ان تكون عليه سيرة الذات، وعلى الرغم مما يبدو من تكامل هذا التصور لدى هؤلاء النفر من الباحثين إلا انهم لم يستطيعوا السيطرة على المفهوم العام للسيرة الذاتية، ولذلك لم يسوقوا لنا تعريفا واضحا ومحددا لما هم بصدده بل انهم جميعا دون استثناء لم يسلموا من الخلط على المستوى التطبيقي بين أعمال ادبية ينطبق عليها شرطهم الفني كأيام طه حسين وسبعون ميخائيل نعيمة، وبعض أعمال توفيق الحكيم، وبين أعمال اخرى لا تَمُتُّ الى هذا التصور الصارم حقيقة مثل التعريف بابن خلدون، وكتاب الاعتبار لأسامة بن منقذ، وقصة حياتي لأحمد لطفي السيد، وأنا للعقاد وغيرها. وليس ذلك وقفا على هؤلاء المتقدمين من اصحاب هذا الاتجاه فقط، بل ان كلا من الباحثين: علي عبده بركات والاستاذ عبدالله الحيدري وهما ممن يمكن ادراجهما وفقا لتصورهما العام ضمن هذا الاتجاه برغم تأخرهما زمانا وحرصهما على التفريق نظريا بين الأنواع المختلفة كالمذكرات والذكريات واليوميات والرسائل والاعترافات وبين السيرة الذاتية لم يسلما من هذا الخلط فقد تنازل علي عبده بركات عن الشروط الفنية عند ممارسته التطبيقية وادخل الى قائمة السيرة الذاتية في آخر الكتاب الانواع الادبية التي حرص نظريا على أن يميزها عن السيرة الذاتية ويفصلها عنها، أما الاستاذ عبدالله الحيدري والكلام هنا مُنصب على ما فعله في الفقرة (أ) من رسالته للماجستير لأنها هي التي تحت يد الباحث وقت إعداد هذا المبحث، فقد وقف وقفة جريئة مع الانواع الادبية المختلفة التي تلتبس بالسيرة الذاتية لأن كثيرا من الناس يخلطون بين هذه الاشكال خلطا بينا، ولا يكادون يدركون الفرق بينها على حد تعبيره ثم ميَّز السيرة الذاتية عنها في آخر حديثه معتمدا على رؤية الدكتور عبدالدائم السابقة، ثم لم يلبث ان عاد فجعل هذه الانواع جميعا اشكالات تفرعت عن السيرة الذاتية او أنها ألوان تتبع السيرة الذاتية، وهي منها بمثابة الفروع تتفرع عن الشجرة الأم، فكأنه بهذا التشبيه أعادنا الى النقطة التي انطلق منها ابتداء. وحاصل الأمر ان هذا الاتجاه بعامة اي من ينظر الى المتن النص السِّيَر ذاتي لم ينجح في تحديد تصور واضح المعالم للسيرة الذاتية، لتفاوت المتون الادبية التي اعتمد عليها في وصف هذا الفن، ولعدم وضوح الرؤية التي على أساسها يختارون وينتقون. *محاضر بكلية المعلمين/ أبها