لا يخفى أن الله -عزَّ وجلَّ- فطر النُّفوس على حبِّ الأخلاق الفاضلة، والميل إلى الصفات الحميدة، كالصدق، والكرم، والمروءة، والجود، وبخاصَّة سلامة الصَّدر ونقاء السريرة، وطهارة القلب، كما أن الله -تعالى- جَبَل النُّفوس على كره الصفات الذميمة، وبغض الأخلاق الرذيلة، والنفور من المتصفين بها، كالكذب، والغش، والتدليس، وبخاصَّة أمراض القلب من الغلِّ والكبرِ. ويأتي في مقدمة هذه الأمراض القلبية “الحسد" وتعريفه: تمنى زوال النِّعْمة عن غيره، وقد يصاحب هذا التمني السعي إلى الكيد لصاحب النعمة، والعمل على إزالتها عنه، وهو من أخسِّ الصفات، وأرذل الأخلاق، فهو حالة مرضية سيِّئة تصل إليها النَّفْس البشرية، فتجعل الإنسان يحترق من الداخل، فلا يهدأ له بالٌ، ولا يطيب له عيشٌ، ولا يهنأ له نومٌ، ولذلك يؤكِّد الأطبَّاء أن الحسد يصيب صاحبه بأمراض نفسية مثل “البارانويا" وهو انعدام الثِّقة بالنفس، والعدوانية الموجهة للذات، كما يصيبه بالأرق، والصداع. فالحسد -إذاً- ناتجٌ عن قلّة العقل، وفقدان الفهم؛ لأن الحاسد يضرّ نفسه أولاً، ويؤذي حياته، ويصيب جسده بالأمراض دون أن يجرَّ إليه ذلك أيّ نفع، أو أن يصيب المحسود بأيِّ أذى إلا بما قدّره الله تعالى. يقول معاوية -رَضِي اللهُ عَنْه -: (ليس في خصال الشرِّ أعدل من الحسد، يقتل الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود)، وقال بعض الحكماء: “يكفيك من الحاسد أنّه يغتمّ في وقت سرورك"، وهذا كلام حكيم فعلاً، ففي الوقت الذي يتنعَّم فيه المحسود بنعمة الله تعالى، ويتمتع بها فَرِحًا مسرورًا، تجد الحاسد يحترق قلبه بنار الحسد، ويغتمّ فؤاده بلهيب الكراهية. فأيّ عاقل يرضى لنفسه بهذا؟!، بل إن الحاسد يجرّ في كثير من الأحيان منافع عظيمة للمحسود، فيكون سببًا لنشر فضائل المحسود، وإذاعة مزاياه، وما أحسن قول الشاعر: وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود لولا اشتعال النَّار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عَرف العود وكما أن الحسد ناتج عن قلّة العقل وضعف التَّحكم في العواطف، فإنّه -أيْضًا- ناتجٌ عن قلّة الدين، وضعف مراقبة العبد لربِّه -عزَّ وجلَّ- فالحسدُ من كبائر الذنوب، فهو أول ذنب عُصي الله -تعالى- به في السَّماء، حين حسد إبليس آدم -عليه السَّلام-؛ لأن الله أمره أن يسجد لآدم، فقال معترضًا على حكم ربه، وحاسدًا لآدم: {قَالَ أنا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} وهو أول ذنب عُصي الله به في الأرض، حين تقبل الله قربان أحد ابني آدم ولم يتقبل من الآخر، فحمله الحسد على قتل أخيه. ولهذا نهى النَّبيُّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- عن الحسد، فقال: “لا تحاسدوا ولا تباغضوا" رواه مسلم وغيره، وقال -عليه السَّلام-: “لا يجتمع في جوف عبد مؤمن غبار في سبيل الله، وفيح جهنم، ولا يجتمع في جوف عبد: الإيمان والحسد" رواه ابن حبان في صحيحه، وحسّنه الألباني. ولشدّة أذى الحاسد، وشرور الحسد، أرشدنا الله تعالى إلى الاستعاذة من ذلك فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِن شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إذا وَقَبَ * وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إذا حَسَدَ}، فنعوذ بالله من شر الحاسد، ونعتصم به تعالى من أذى الحاسدين. [email protected]