أرى عن بعد من خلال النافذة الصغيرة أضواء متناثرة هنا وهناك والهواء يحمل الطائرة ويلاعبها ويهدهدها كدمية في يد طفل عابث فتتمايل الطائرة وتنثني كصغير بين أحضان الحنان يتنهد. تلمع عيناه بأمل وينساب الهدوء على جنباته من رقة الأيدي التي تحمله وأرجوحة الحياة تتناغم على وترٍ هامس وهي تحلق في أجواء الأحلام. وتبحر النظرات بتثاقل تعد الثواني تتأرجح الطائرة تعانق السحب، فتزهو النفوس وتبحر في الأحلام وانتظار الوصول وتقفز القلوب مهرولة عند اهتزازها وتلاعب الهواء بها. فتتشبث الأيدي بالمكان هلعاً، فتغزو الفكر تساؤلات يا ترى كيف يحمل هذا الهواء تلك الطائرة على هذا العلو الشاهق؟ هل نبضات قلوبهم مثلي تقفز بين حين وآخر؟ أم أن زمجزتها وتمردها تُمارس في جسدي فقط؟! التفت ونظرت إلى المكان القريب مني، رجل مسن وضع رأسه بين يديه فوق المنضدة التي أمامه في ركوع هادئ وأنفاسه تتردد بهدوء، وانسجام تام، وقد رحل في أدغال نوم عميق، وبجانبه يجلس شاب تتلاعب أنامله بصفحات جريدة يومية وعيناه تسبحان بين حروفها، وعلى مقربة منه امرأة تجلس مسندة رأسها إلى الخلف على المقعد. وأثناء تأملي وشرودي وتنقّل نظراتي بين الجالسين كأني أبحر في قراءة كتاب مشوق، إذ بصرخةٍ دوّت فشقت عباب الصمت الذي يغلف الوجوه فانشدت الأنظار إلى حيث الصراخ فإذا بطفلة تسحبها والدتها وهي تتنقل بين المقاعد لتصل إلى مكان القيادة، فضول طفولي، يدفع بها لاستكشاف ما هناك. وتعود نظرتي إلى نافذتي القريبة، تتوغل بين السحب وتلك الأجنحة التي تتمرغ على حبيبات الهواء بهدوء. وصوت المحرك يدوّي جاهداً، وأثناء تأملاتي المحلّقة في فضاء أحلامي الممزوجة بالفضاء الخارجي الذي تبحر به عيناي، إذ بصوت يصافح أذني. هل ترغبين بكوب من الشاي؟ نعم وإذا بمشروب لذيذ تفوح رائحته الزكية لتعانق أنفي بنشوة أخذته على عجل وعدت مجدداً إلى رحلة أفكاري العذبة وأحلامي المتناثرة تحملها الطائرة على متنها. وبعد لحظات وجيزة، إذ بهزة أطاحت أكواب الشاي هنا وهناك، وبدأت تتمايل أجساد الأشخاص الذين يقفون على الممرات فتقاذف بعضهم على بعض فأسرعوا للتمسك بالمقاعد وشهقات الفزع وصراخ الهلع أخذ يشق أجواء الطائرة فأخذ يعلو الصراخ في لحظة. تبدل الهدوء إلى صخب مزمجر جثم بثقله على هؤلاء الناس، فركض بعضهم إلى حيث (الميكروفون) ليعلن أن لا شيء حدث فليلزم الجميع الهدوء، هذا مجرد (مطب هوائي) نتيجة الضغط من جراء علو بعض الجبال واستعداد الطائرة للهبوط، فقد أقبلت وشارفت على المطار فلا داعي للخوف. وفي هذه الأثناء، إذا بموجة هواء أخرى تمسك بالطائرة وتهزها هزاً عنيفاً وكأنها تريد إلقاء ما بداخلها إلى الخارج.. مثلما يريد شخص تنظيف سجادته من الغبار فيهزها بشدة! وعاد الصراخ والفزع ينثر على عباراتهم، فأفاق الرجل الغارق في سبات عميق من غفوته ونظر في فزع وتساؤل! فعرف أن هناك شيئاً أثار الرعب فعمّ الخوف أرجاء نفسه فأخذ يتمتم بالدعاء، ثم شدّ مقبضه ودموعه تهطل باستحياء وفي المقعد الخلفي هرعت المرأة وأمسكت بابنتها وعانقتها بقوه وفزع. والشاب استدار وحاول تماسك أعصابه ولكن، نهض واتجه إلى الطيار ليسأل عمّا حدث. عندها فقط تلاشت أنسجة الخيال الخصب لمروج أحلامي وتبعثرت آمالي خيوطاً تناثرت فوق أرض الواقع الأليم فقبلت دمعتي مقلتي فأخذت أبذل الدعاء، ثم رأيت الرجل المسن يتجه إلى أحدهم يسأله أن يكتب له رسالة، يرصد بها وصاياه فانسابت دمعته مع كلماته بوجل. فقال: اكتب إلى محمد سالم وأخبره أنني قد سامحته عن المال الذي استدانة مني قبل بضعة أشهر، واكتب لعمر بن موسى أن يسامحني عن إساءتي له يوم أن طردته من مسكنه الذي استأجره مني، واكتب.. وانهال بالوصايا والألم يعصر فؤاده ويتردد خوفه من الله وحزنه لاقتراب الساعة الموعودة التي تقتل أمله وحباله التي سردها في طريقه.. آه.. حانت ساعة حساب النفس وعتابها، والشاب أخذ يرفع يده إلى الله يدعو ويستغفر ذنوبه ويتمتم بالتوبة الصادقة التي تبدو بين دموعه عندما عصفت بها عيناه. وفي هذه الأثناء بعد توجم وتحفز.. ودعوات تتقاذف على الألسن هنا وهناك.. إذ تحرك المذياع، وهتف قائد الطائرة.. بكلمات زفّ البشرى خلالها، حان موعد الهبوط فقد رأيت أنوار المطار. لقد اقتربت الطائرة، وها نحن نتأهب للهبوط، فدعوا القلق وليمسك كل منكم بمقعده.. هيا..