كان يشبهني !!!... بكيت لبكائه.... [ ....صعب جدا أن تحبس دمعته أمام رجل أشيب غادر السواد شعر رأسه وذقنه منذ أمد بعيد وترى دمعته !!!...]. كصدف حياتي الكثيرة، قابلته صدفة ،لم أكن أعرفه من قبل، وصدفة كان يجلس على المقعد بجانبي في الطائرة ، أثناء الرحلة من القاهرة إلى الرياض ، في البدء جلست على المقعد، ومن أتى مستندا على عكازه ، جلس بجانبي ، وكأنه لم يجلس ،وبعد برهة من الوقت بعد جلوسه، تذكر أن هناك أحدا بجانبه، فأردف علي السلام، وحين أجبته، لم ينزل نظراته من وجهي،نظر إلي ملياً، ثم قال :- = إنك تشبه ابني محمدا كثيراً .... قلت له :- = الله يحفظه ويجعله بارا بك ... ودون أن يلتفت نحوي قال بحسرة شعرت بها من نبرة صوته :- = إنه معنا على هذه الطائرة ... قمت واقفاً وقلت له :- = آسف يا عمي إن أردت أن يكون بجانبك سأبدله بمقعدي .... أمسك بطرف أصابعي وقال :- = أجلس يا بني ... حينها رأيت دمعته قد سقطت على لحيته البيضاء، سألته :- = ما بك يا والدي ... لم يعر سؤالي جوابا ، وغاب عني وعن الكل بنظرات حزينة ، شعرت بأن هناك شي ما ، واستنتجت أن ابنه لم يكن بارا به، وأنه سافر للقاهرة ليأتي به من شوارع وأرصفة الضياع ، أحزنني كثيرا هذا الاستنتاج وتألمت كثيرا لدمعته ومسحت دمعتي قبل أن يلحظها ،وما هي سوى دقائق وقال لي :- = كان ابني مريضا ... ياه لعقلي الذي يعشق التخيل فنسيت كلمة كان التي قالها وشرعت أفكر أنه مريض بمرض جنسي خطير ، كان تخيلي عبرني خلال ثانية تلك الثانية التي بلع به هذا الرجل الأشيب ريقه فيها وقال:- مريضا بالسرطان فذهبت به للعلاج في القاهرة ومات هناك ، وهو في تابوته معي بهذه الطائرة أخفى وجهه بين كفيه وأجهش ببكاء صامت وشعرات ساعدي وقفت من هول ما سمعته ، شعرت بحبيبات كثيرة اعتلت جلدي ، وشي كالدوار يلف بي كل أنحاء الطائرة وحين رأيت صمته تمددت على المقعد وأغمضت عيني المبلولة بالدموع ،لم أشعر بالطائرة وهي تحلق في الجو ولم أكن أعرف كم من الوقت مضى ونحن في الأجواء ، طال بنا الصمت كانت عيناه مسمرتين على سقف الطائرة حتى لا تكاد أن تسمع أنفاسه وما أراحني هي رموشه التي تطرف ، لم أنظر إليه ولكني ركزت نظري على السقف مثله وألمحه بين الفينة والأخرى ، فجأة بدأت الطائرة تهتز بعنف فأمسكتُ بيدي على مقبضي المقعد ، وكان هو في عالم أخر ، وبعد دقائق جاءنا صوت كابتن الطائرة ليقول لنا أن نربط الأحزمة ونلتزم الهدوء ، ولكن الطائرة زاد اهتزازها ليعلن الكابتن بأن هناك عطل في محرك الطائرة تعالى ضجيج وصرخات الركاب ، استعنت بالله ، ووجدته قد أفاق من هواجسه ، وسألني :- = ما الأمر يا بني ... ؟ = لقد تعطل محرك الطائرة ... أصابه الفزع ، وتغيرت ملامحه فجأة ، ولأول مرة أرى الخوف والرجاء في نظرات إنسان ، صرخ بصوت عالٍ :- = لا يمكن يحدث هذا – وقف بصعوبة بمساندة عكازه – أبني معي ميت ،لا أريد أن يموت مرتين لف وجهه نحوي – لقد تعذب بما فيه الكفاية ، وأريد أن أدفنه ... أنهار فجأة على مقعده ، خوفي عليه كان اكبر من خوفي من تمايل واهتزاز الطائرة ، أمسكت به وهدأت من روعه ، كالطفل الذي يغلبه النعاس كان هو ، لحظات سريعة ، وبعدها قام بكل نشاط واقفاً ، وهذه المرة بدون أن يعتمد على عكازه ، صرخ بوجهي :- = شهرين كنت مع أبني محمد رحمه الله ، ستون يوماَ لم أر فيهم أبني ، فهل سأموت دون أن أراه قل لي بربك هل سأموت دون أن أرى أبني الباقي لي في الحياة ؟... كان بكاؤه مؤلماً ، بكيت لبكائه ، وظن الآخرون أنني أبكي لوداع الحياة ، فبكى كل من كان في الطائرة ، وحين بدأت الطائرة في النزول ، صمت الجميع ، حتى حطت الطائرة على أرض المطار ، وفتحت الأبواب ، رأينا من خلال نوافذ الطائرة ، مجموعة من سيارات المطافئ تحيط بالطائرة ، ومجموعة من رجال المطافئ بلباسهم المغلف بنايلون ، ويمسكون بخراطيم الماء المصوبة نحونا ، خرجنا من الطائرة ، ونزلنا الدرج ، كان هو يمسك بيدي ، وباليد الأخرى يمسح دموعه ، وقال لي وهو ينظر إلى الأرض ليعرف أين يضع خطوته :- = إنك تشبه ابني محمدا كثيراً الله يرحمه قبلت رأسه ، وحين ركبنا الحافلة ، أجلسته على مقعد وانتظرت واقفاً ، حتى دخلنا من بوابة المطار ، وبعد أن أنهينا إجراءات الدخول ، وخرجنا ، وجدت شاباً لا يصغرني بالعمر كثيراً ، ولأول مرة أرى ابتسامة الرجل الأشيب الحزينة ، وكذلك بسمة الشاب ، الذي حضن أبيه ، وبكى كل منهما على كتف الآخر ، لم أتحمل الموقف ، وتركتهما ، مغادراً المطار ، وجملة الرجل الأشيب لا تزال تئن في داخلي " إنك تشبه ابني كثيراً " تركته هناك مع أبنه الوحيد بعد وفاة أبنه الأكبر ، تركته دون أن أقول له أن اسمي محمد !!! إعتذار : أتمنى لكم صيفاَ ملؤه الفرح ، لأن حزني سيتوقف ....