«ما النشاطات الثقافية التي تمارسها؟» صمت طويل، يعقبه تفكير أطول، ثم إجابة مترددة: «أذاكر قبل امتحانات الجامعة. وأحياناً أقرأ عناوين الجريدة التي يشتريها والدي. وحين شاهدت فيلم «الفيل الأزرق» في السينما، استعرت الرواية المكتوبة لأقرأها لأن الفيلم أعجبني جداً، لكني قرأت صفحتين، ولم أتمكن من الاستمرار». (مدحت 21 سنة طالب جامعي). «أين تذهبين على سبيل الترفيه الثقافي؟» ضحكت ثم سألت مستنكرة: «ترفيه ثقافي؟ ما علاقة الترفيه بالثقافة؟ ما نتلقاه في المدرسة يمدنا باكتفاء ذاتي من الثقافة. خلينا في الترفيه. أذهب في رحلة نيلية مع صديقاتي، أو نذهب إلى أحد المراكز التجارية الكبرى لنتمشى، أو ننزل إلى وسط القاهرة ونأكل وجبة كشري يعقبها طبق بسبوسة بالقشدة». (سمية 17 سنة طالبة ثانوي). «هل فكرت يوماً في الذهاب إلى دار عرض سينمائي أو مسرحي أو حضور حفلة موسيقية على سبيل الترفيه؟» «نفسي. فأنا أعشق السينما والمسرح، وأهوى أنواع الموسيقى المختلفة، إلا أن سعر تذكرة السينما لا يقل عن 25 جنيهاً في دور العرض المتواضعة. أما المسرح فالعروض التي تناسب ذوقي في القاهرة، وأنا من أهل البحيرة، وهذا يعني أن أضيف ثمن تذكرة السفر إلى سعر تذكرة العرض، أي أن مصروفي الشهري لن يكفي». (عادل 20 سنة طالب جامعي). الترفيه الثقافي من مشاهدة فيلم سينمائي أو عرض مسرحي أو حفلة موسيقية أو حتى زيارة متحف أو موقع أثري أو غاليري فني، من المظاهر النادرة الحدوث أو المنقرضة بين الشباب. «على الشباب أن يولي قدراً أكبر من الاهتمام للجوانب الثقافية في حياته. لن أنصحه بقراءة كتاب، أو حتى الصحيفة، لكن على الأقل يذهب إلى الأوبرا أو معارض الفن التشكيلي أو حتى لمشاهدة فيلم قيم في دور العرض»، هذا ما نصح به «مفكر وكاتب» في حلقة تلفزيونية حول تدني سلوكيات الشباب وانتشار العنف والبلطجة بين كثيرين منهم، وانجذاب آخرين إلى التطرف والتشدد. لكن ما قيل تعليقاً على مطالبة المفكر والكاتب كان شجباً وتنديداً من قبل أولئك المطلوب منهم الترفيه عن أنفسهم ثقافياً. فخانة «الترفيه الثقافي» شبه الخالية لدى القاعدة العريضة من الشباب المصري، ولن تحله مطالبات أو مناشدات. تقول منار سامي (18 سنة) إنها والغالبية العظمى من زميلاتها وصديقاتها وقريباتها يحلمن بالذهاب إلى حفلات موسيقية وعروض مسرحية، لكن مثل هذا النوع من الترفيه يحتاج موازنة لا تتوافر للغالبية. منار تؤكد إنها ذهبت إلى الأوبرا مرتين. الأولى عندما كانت في المرحلة الإعدادية وذلك لأن مدرستها كانت تشارك في احتفال عيد الطفولة، والثانية كانت قبل أشهر حين دخلتها مع صديقاتها والتقطن الصور الفوتوغرافية في الحديقة, لكنها لم تشهد عرضاً موسيقياً أو غنائياً أو راقصاً. وعلى رغم الأسعار المخفضة المتاحة للطلاب، إلا أن الشابة لم تتكبد عناء السؤال عن أسعار التذاكر، ظناً منها إنها باهظة جداً. طارق الشيمي (23 سنة) يقول إنه «مدمن» حفلات موسيقية، وهي لا تكلفه الكثير. «صحيح أن معظم الأماكن المتاحة من مسارح ودور عرض أسعارها مرتفعة جداً، إلا أن في مصر مجموعة رائعة من الأماكن البديلة التي بزغ نجمها في السنوات الأخيرة، وتعد بمثابة نسمة هواء عليلة للكثيرين من الشباب من محبي الفنون المختلفة». «محبو الفنون من الشباب أفسدوا الفنون». جملة غاضبة لاقت تأييداً عارماً من قبل كل الجالسين. واستطرد صاحبها: «جيل فاسد الأخلاق والأذواق. أنظروا إلى سلوكياتهم في الشارع، واسمعوا مطربيهم المفضلين. أوكا وأورتيغا، وسعد الصغير، وغيرهم ممن يجب أن يقدموا للمحاكمة بتهمة إفساد الذوق العام». الجلسة السبعينية التي كاد يصدر أعضاؤها حكماً بالإعدام على كل من يستمع لهذا النوع من الموسيقى، فاتها عدد هائل من الفرق الموسيقية الشبابية والأغاني السياسية والإنسانية التي ظهرت في الأعوام القليلة الماضية لتؤكد أن أذواق الشباب متفاوتة تفاوت أذواق الكبار أيضاً. كما فاتها البحث في أسباب وعوامل ظهور «أوكا وأورتيغا» وأشباههم، ونجاحهم في جذب فئة عريضة من الشباب التي لم تسمع عن «ساقية الصاوي» أو تعرف عن «دار الأوبرا» أكثر من كونها اسم محطة مترو أو تعي أن الرقص أنواع وأشكال، وليس مجرد «هز الوسط». سامي سعد، هو مدرس تربية موسيقية بحسب مسماه الوظيفي، لكنه عوضاً عن ذلك يقوم بأعمال إدارية في المدرسة. وحين سئل عن السبب، قال وقد غلبه الإحباط وهزمه اليأس: «آخر مرة عملت فيها مدرساً للموسيقى كانت قبل نحو عقد ونصف حين كان في المدرسة أورغ وكمان، وكنت أعلم الأولاد النوتة الموسيقية. لكن الأورغ تهشم، والكمان تقطعت أوتاره، والأولاد توقفوا عن حضور الصف، مرة لأن مدرس العلوم «استلف» الحصة، ومرة لأن الناظر قرر أن التربية الموسيقية «كلام فاضي». وتبدو آثار «الكلام الفاضي» جلية واضحة اليوم بين الشباب والشابات، حيث الموسيقى والغناء والرقص، إما رفاهية لا طاقة لهم بها، أو متاحة لكنها تحتاج إلى من يبحث عنها، أو مصنفة تحت بند «الحرام» و«العيب».