مع أن كثيرين من فناني العراق، موسيقيين ومسرحيين وسينمائيين وتشكيليين، يرون أن التغيير العاصف في العام 2003 وفّر مساحة من حرية القول والتعبير لم تكن البلاد عهدتها أثناء الحكم الديكتاتوري، إلا أنهم يجمعون أيضاً على صعود قيم تصنع محظورات في ما خص التعبير الفني، فضلاً عن مخاطر الأمن، المباشرة وغير المباشرة، والتي جعلت من نتاجهم الفني غير مؤثر... في حال وجدوا فرصة لتقديمه. لكن هذا السجال لا يمنع حقيقة واضحة، هي أن وقائع العراق وأهواله ما بعد العام 2003 لا أثر جدياً لها في فنونه، فقليلة هي الأعمال الموسيقية والغنائية التي عنيت بتجارب إنسان بلاد الرافدين خلال السنوات الثماني الأخيرة، وتمكنت من إيصال رسالة ما إلى جمهور عريض، وكانت نادرة أيضاً التجارب المسرحية والتشكيلية والسينمائية في هذا السياق. لا تيار مسرحياً واضحاً مسرحياً، يرى الكاتب عباس لطيف أن «لا متغيرات بارزة في المسرح العراقي بعد العام 2003، المسرح لم يفرز تياراً واضحاً بعد، وما زال يجترّ تجارب قديمة على رغم وفرة من المواضيع». ومع إقراره بوجود «بعض التجارب المتمايزة هنا وهناك»، إلا أنه يخلص إلى أنها «لم تتبلور في حركة مسرحية ناضجة». وفي حين تغيب وقائع المحنة العراقية عن «المسرح الشعبي الراقي»، بحسب تعبير المخرج والأكاديمي فاضل خليل، إلا أن جانباً منها يتعلق بسيادة القيم السطحية التي تحضر في «المسرح الجماهيري». ويقول إن «المسرح الجماهيري بدأ ينحدر بالذوق العام، نتيجة اعتلاء الخشبة راقصات، وبعض من يستسهل إضحاك الناس بقفشات تخدش مسامع الجمهور، وثمة من خدع بمثل هذه الأعمال واعتبرها شعبية». وقد لا يبدو غريباً قول فاضل خليل أنه قرّر الاعتكاف، مثل الكثيرين من أبناء جيله، موضحاً أن قراره ليس «لمجرد الرغبة في الاعتكاف، بل لعدم وجود مقومات التواصل مع المسرح الجاد، ولعدم اهتمام الدولة بإنجاح المسرح وتطويره». ويرى المسرحي والأكاديمي، مرسل الزيدي، الحركة المسرحية العراقية «متعثرة» بسبب الأحداث السياسية التي مرت بالبلاد، مع إشارته إلى «إبداع وتألق المسرحيين العراقيين في المحافل والمهرجانات الدولية، على رغم معاناتهم الكبيرة وانتكاسات المسرح العراقي». ويضيف: «لكن، على رغم الحفاوة هذه، لا يحضر المسرح كعامل مؤثر في الوعي الاجتماعي المنشغل بتأمين حاجات تتقدم على المعرفة الفكرية والثقافية، حاجات تبدأ من تأمين متطلبات العيش الأساسية ولا تنتهي بالخوف من المجهول الذي تعنيه تحديات الأمن والعنف». وعلى نسق مشابه لخليل، قرر الزيدي الانصراف إلى الكتابة في مجالات الرسم والشعر والنقد والمسرح. وفي حين يبدو أن هناك شعوراً عاماً بأن الفنان المسرحي في العراق يعاني بطالة وركوداً ما بعد العام 2003، نتيجة تحديات الوضع الأمني، إلا أن هناك مؤشرات على النقص الكبير في المتطلبات الفنية للعمل، إذ تغيب المسارح الصالحة للعرض، في ما خلا المسرح الوطني، الذي تحول مؤخراً مكاناً للمنتديات والنشاطات السياسية والخطابية. من أسباب انحدار الأعمال المسرحية أيضاً، الأجور الزهيدة التي يتقاضاها الممثل، وقلّة شركات الإنتاج، ودخول شخصيات بعيدة كل البعد من عالم التمثيل، وبأجور زهيدة جداً، ما أثّر في مسار الفنان الحقيقي. ولا ننسى نمو العمل التلفزيوني، وإطلاق عشرات الفضائيات العراقية، ما أدّى الى امتصاص الكثير من عمل المسرحيين العراقيين الذين تحولوا الى الدراما المتلفزة أو العمل في مراحل الإنتاج التلفزيوني، حتى الإخباري منه، تحت وطأة الحاجة. ومع ذلك، تحضر الوقائع العراقية في بعض الأعمال على مستويين: الأول الشعبي، الذي يستدعي البكائيات، جراء ما عاشه الناس لعقود. والثاني رسائل سياسية مباشرة، مندّدة بالإرهاب والعنف وانتهاك الحريات، كما في عرض قدّمته فرقة «حقوق» كباكورة لأعمالها المسرحية تناولت فيه «قضية المجهولين» (السجناء السياسيين بعد 2003)، والتي لا تزال تثير الكثير من الجدل السياسي والاجتماعي في العراق. أحلام في الموسيقى وفي الموسيقى، وعلى رغم المحاولات الفردية لصوغ أنغام تتلمس الوقائع العراقية الرهيبة، والتعبير عنها فنياً وإنسانياً، إلا أن الثابت هو غياب أنغام واسعة التأثير على جمهور بات يتعرف على شكل غنائي واحد، السهل المتاح عراقياً، وهو في نبرة من السذاجة العاطفية والموسيقية غالباً. وحتى راح أكثر من فنان أو فرقة ينظمون عروضاً أو حفلات موسيقية نهارية لأن المساءات محفوفة بالمخاطر في بغداد. الموسيقي سليم سالم، كتب ودرّس الموسيقى لأكثر من عشرين سنة، ووضع عشرات المؤلفات الموسيقية، وكتب بحوثاً لها أهميتها في تطوير آلة العود، يقول إن أبرز أحلامه «بناء دار للأوبرا العراقية، وتأسيس مدرسة للعود العراقي، وتمكين الشباب من البحث والتدريب بأسلوب عصري وحديث». ويأمل في «تأليف أول أوبرا عراقية بإسم أوبرا سينمار التي كتبها الشاعر العراقي محمد علي الخفاجي وتنفذها موسيقياً الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية»... هكذا، لا يكف سالم عن الحلم، يتعاون مع عازفي العود علي حسن ومصطفى زاير في» فرقة الآرموي» المتخصصة في العود عزفاً وتأليفاً، ويؤكد أن «المجتمع العراقي بحاجة إلى ثورة لتهذيب الذوق وتمرين الأجيال على السماع وتذوق الفن الجميل». وتبدو الحفلات الموسيقية التي يقيمها «معهد الدراسات الموسيقية» أو «معهد الفنون الجميلة» أو «كلية الفنون الجميلة»، تجسيداً لغياب الوقائع العراقية عن النغم الموسيقي. فهي، على الأغلب، تعنى بالموروث النغمي المحلي أو العربي والشرقي عموماً. وحين تنحسر هذه العناية، لصالح الوقائع الحياتية والتعبير عنها، تحضر الأغنيات والأناشيد الوطنية الحماسية الفجة. وفي ما يشبه السباحة ضد التيار، تأتي عروض «الفرقة السيمفونية الوطنية العراقية»، بقيادة المايسترو المعاند لتيارات العنف والتحريم، كريم وصفي. لكنها، وعلى رغم أهمية ما تقدمه، تظل تدور في إطار نخبوي مع كثير من المقطوعات الكلاسيكية، والقليل من الأعمال النغمية المنفتحة على موضوعات عراقية راهنة. ومن جهة ثانية، تتحجج وزارة الثقافة بضعف التمويل لرفد هذه الفرقة، التي تحاول كالعنقاء النهوض من رمادها منذ تعرض مقرها في العام 2003 إلى سلب ونهب، بعد «احتلال» ميليشيا أحد الأحزاب المتنفذة لذلك المقر. سينمائياً، تحضر الوقائع العراقية بقوة، لكن بمفارقة غريبة، فالعروض نادرة داخل العراق، مع أن الأعمال تحقق نجاحاً واسعاً في التظاهرات والمهرجانات العربية والإقليمية. وعن هذه المفارقة، يقول مدير كلية السينما والتلفزيون المستقلة المخرج قاسم عبد، إن «الأفلام التي سبق عرضها في دول عربية وأجنبية لم تعرض في العراق»، مشيراً أن «هناك عداء للسينما في العراق، ومنهم من يعتبرها خطيئة». فيما يؤكد الناقد السينمائي أحمد ثامر جهاد، أن «الأفلام التي تعرض في الخارج، تأخذ مادتها الخام من الواقع العراقي»، مشيراً إلى أن فعالية المهرجانات التي تقيمها مؤسسات أكاديمية فنية عراقية هي «ظاهرة صحية لإعادة إحياء طقس الصالة السينمائية التي افتقدها العراقيون طيلة سنوات». وفي الفنون التشكيلية تحضر الوقائع العراقية وتغيب في آن. ويمكن رصد عشرات المعارض سنوياً، في بغداد ومدن عراقية عدة، وهي تكتظ بتعبيرات بدائية في الرسم والنحت والخزف، عن معتقدات وطقوس وتقاليد وظواهر اجتماعية راهنة. بينما تكتظ الأعمال الفنية الرصينة بتجريد لا يختلف عن ذلك الذي يمكن التعرف عليه من قبل أي فنان غربي بعيد من العراق وظواهره النازفة. ويندر أن تجد معرضاً في بغداد ينشغل بهواجس إنسان بلاد الرافدين، مثلما كانت أجيال من التشكيليين العراقيين قد فعلت في إنجاز وطدته منذ اربعينات القرن الماضي.