تحتفل الأوساط الثقافية المصرية هذه الأيام بمرور ربع قرن على تأسيس مبنى الأوبرا الجديد، قرب ميدان التحرير الذي شهد أحداث 25 كانون الثاني (يناير) 2011 التي أحدثت تغيّرات عميقة في مصر لا تزال مستمرة إلى اليوم. وكما ارتبط تأسيس دار الأوبرا المصرية القديمة نهايات القرن الماضي (عام 1869 واحترقت في 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 1971) بعملية تحديث واسعة قادها الخديوي إسماعيل لجعل مصر قطعة من أوروبا، جاء مبنى الأوبرا الجديد الذي شيّد بمنحة يابانية عام 1988 ليعطي إشارة إلى فكرة التواصل مع فضاء جغرافي آخر. ففي عام 1985 اتفقت هيئة التعاون العالمية اليابانية (JICA) مع وزارة الثقافة المصرية في القاهرة على تصميم ينسجم مع ما يحيط بالدار من مبان. واتسم التصميم بالطابع المعماري الإسلامي الحديث، وافتتح المبنى في تشرين الأول 1988 لتكون مصر أول دولة في المنطقة تقيم داراً للأوبرا مرتين في عقد واحد من الزمان. ترى الرئيسة الحالية لدار الأوبرا الدكتورة إيناس عبد الدايم أن مناسبة مرور ربع قرن على تأسيس الأوبرا الجديدة «ليست مناسبة لكسر عزلة المبنى عن محيطه الاجتماعي»، معتبرة انه ومنذ تأسيس هذا الصرح وهو معروف لدى الناس «بفضل الموقع الجغرافي الذي أتيح له قرب نهر النيل، وعلى مسافة خطوات من صروح ثقافية واجتماعية، أبرزها متحف النحات محمود مختار وتمثال الزعيم سعد زغلول والنادي الأهلي وشارع أم كلثوم. وكلها مساحات للعيش اليومي عند المصريين». تشمل مساحة الإنشاءات داخل أرض الأوبرا نحو 22772 متراً مربعاً، بينما يقع المبنى ذاته على مساحة 13855 متراً مربعاً، بارتفاع 42 متراً كحد أقصى. وساحة الأوبرا هي أكبر فضاء ثقافي عربي، وفق عبد الدايم التي توضح أن «الساحة تشمل مؤسسات ثقافية أخرى مثل المجلس الأعلى للثقافة ومتحف الحضارة ومركز الهناجر للفنون ومركز الترجمة ومركز الإبداع وصندوق التنمية الثقافية، وكلها مفتوحة للعمل العام وليست معزولة كما يعتقد البعض». شهرة مستحقة إيناس عبد الدايم عازفة فلوت مصرية، تبدو اليوم معروفة أكثر من أي وقت مضى بفضل الأحداث التي أعقبت إقالتها من منصبها في أيار (مايو) الماضي أثر قرارات اتخذها وزير الثقافة المصري السابق علاء عبد العزيز وشملت إقالة أبرز مسؤولي الوزارة وأدت إلى تنظيم اعتصام لمجموعات من المثقفين لمواجهة ما سمي بقرارات «أخونة الثقافة». ونجح هؤلاء في احتلال مبنى الوزارة وإرغام الوزير على تركه قبل أن تؤدي أحداث 30 حزيران (يونيو) إلى عزل الرئيس محمد مرسي من منصبه نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي دعمتها القوات المسلحة وأدت إلى إسقاط حكومة الإخوان المسلمين وعودة كل القيادات التي أقيلت إلى المناصب التي كانت تشغلها سابقاً. وترى عبد الدايم أن تجربة الاعتصام التي ارتبطت بتقديم فنون الأوبرا في الشارع «ساعدت الأوبرا كما لم تفعل أي احداث أخرى عاشتها الثقافة المصرية، إذ أظهر الاعتصام تضامناً شعبياً واسعاً مع الثقافة والفن اللذين كانا مهددين في ظل حكم الإخوان المسلمين»، وسمحت «لفنون الأوبرا أن تقدم للمرة الأولى في الشارع ومن دون مقابل، وهي خبرة أفادتنا كثيراً لتغيير خططنا ونكون أكثر قرباً من الناس». وتقول عازفة الفلوت البارزة: «بدأنا تقديم الأعمال التي لقيت تفاعلاً جماهيرياً عند تقديمها في الشارع، مثل باليه زوربا وأوبرا عايدة وعروض عازفة الهارب منال محيي الدين وعازفة الماريمبا نسمة عبد العزيز. كما تمكننا من زيادة عدد حفلات فرق الموسيقى العربية وأعدنا تقليد خميس أم كلثوم نهاية كل شهر». وتوضح أنها شعرت بنوع من التضامن الجماهيري مع الفن خلال فترة الاعتصام التي زادت على 30 يوماً، وتقول: «كان لدى فنانو الأوبرا شعور بعزلة هذا الفن ونخبويته، لكنهم اليوم أكثر ثقة بتأثير ما يقدمونه على الناس ولدينا شعور بالفرح لأن المجتمع بات أكثر حرصاً على المكان والمكانة التي تحظى بها الأوبرا. وبالفعل زاد تعامل الناس مع المكان وتجاوبهم معه». من ناحية أخرى، بدأت الأوبرا العمل على إطلاق فرقها لتقدم عروضها خارج أسوار الدار، إلى جانب تكثيف عروض الأوبرا في مسارحها القائمة في الاسكندرية ودمنهور. وهو مخطط ترغب عبد الدايم في التوسع فيه مع تحسن الأوضاع الأمنية، مبدية استعدادها للتعاون مع فضاءات العرض المستقل إلى جانب تقديم عروض نهارية بتذاكر مخفضة الأسعار لتلامذة المدارس وطلاب الجامعات. وتشير إلى أنها وقعت اتفاقاً مع هيئة تنشيط السياحة لتقديم عروض ترويجية في شرم الشيخ وسهل حشيش في الغردقة على البحر الأحمر: «أحلم بإعادة تجربة أكشاك الموسيقى إلى الحدائق العامة، حيث يمكن المواطن الاستماع إلى الموسيقى مجاناً من دون أن يكون مضطراً للمجيء إلى الأوبرا». وتنفي عبد الدايم التي عُيّنت في المنصب في عهد آخر حكومة انتقالية شكلها المجلس العسكري قبل تسليم السلطة لحكومة شكلها الرئيس المعزول محمد مرسي قبل أكثر من 17 شهراً، أن تكون تعرضت خلال فترة رئاستها لدار الأوبرا لضغوط من جماعة الإخوان المسلمين أو أي قوى أخرى محافظة، وتشير إلى وقائع محددة حوصرت بفضل التحرك الإعلامي لمواجهتها ومنها مطالبة نائب سلفي في جلسات مجلس الشورى بإلغاء فرق الباليه». تتذكر عبد الدايم، وهي ثالث امرأة تتولى مسؤولية الأوبرا بعد ماجدة صالح والمؤرخة الموسيقية ومغنية الأوبرا الراحلة رتيبة الحفني، أن «وزير الثقافة السابق علاء عبد العزيز طالب بتقليص موازنات قطاعات وزارة الثقافة كلها بما فيها دار الأوبرا، وبالتالي كان موقفه عاماً ولم يكن ضد الدار بالتحديد». وتضيف: «الموازنات لم تتأثر، إلا أن هناك قيوداً أكبر في الإجراءات المحاسبية المتعلقة بآليات استقدام فرق عالمية وعازفين أجانب في الوقت الحالي، وهي إجراءات جاءت ضمن خطط تقشف أقرتها الحكومة». تقليص خطة الاحتفال وتوضح عبدالدايم أن التخطيط للاحتفال بمرور ربع قرن على تأسيس دار الأوبرا جرى طوال العام الماضي، غير أن التطورات السياسية التي عاشتها مصر ساهمت في تقليص ما كان مقرراً من برامج لاعتبارات مرتبطة بالظرف العام: «كان الطموح هو دعوة فرق عالمية كبيرة، ونظراً إلى صعوبة ذلك في الوقت الحاضر بدأنا بالإمكانات المتاحة واكتفينا باستقدام العروض الأبسط في تجهيزاتها الفنية أو عدد أفرادها، ودعونا اليابان كضيف رسمي اعترافاً بدور الحكومة اليابانية في تأسيس المبنى. كما وجهت دعوة لحفيد الموسيقار الإيطالي جوزيبي فيردي صاحب أوبرا عايدة الذي ارتبط اسمه بتأسيس الدار، وقدمنا عرضاً بانوراميا تضمن أجزاء من أبرز العروض التي قدمت على مسارح الدار ونال إقبالاً جماهيرياً لافتاً وأظهر مواهب جميع أعضاء فرق الأوبرا و تنوع أجيالهم، وشارك فيه من نجوم دار الأوبرا حسن كامي ونيفين علوية وآخرون». تضم الأوبرا الحالية 3 مسارح هي: الكبير 1200 مقعد، والصغير 500 مقعد، والمكشوف 600 مقعد. وتنضوي تحت لوائها 9 فرق أبرزها فرقة باليه أوبرا القاهرة، وأوركسترا القاهرة السيمفونية، والفرقة القومية للموسيقي العربية، وفرقة الرقص المسرحي الحديث. وتقيم الأوبرا صالونات ثقافية ومعارض فن تشكيلي ومهرجانات موسيقية صيفية لفرق الهواة، كما تعرض أعمال كبار الفنانين والفرق العالمية باتجاهاتها المختلفة. وتراهن رئيسة دار الأوبرا على توسيع الأعمال والنشاطات وتحسين نوعية الإعداد والتدريب التي يمر بها فنانو الأوبرا. وتقول: «أمامنا الكثير لنضمن تجهيزات متميزة، لكن رهاننا على كفاءة المواهب البشرية». وعن دور نجوم الأوبرا في دعم نشاطاتها تقول: «لدينا أسماء لها جماهيرية واضحة مثل عمر خيرت ومنال محيي الدين ونسمة عبد العزيز ويحيي خليل، وربطت نفسها بجمهور. ونأمل في أن يتحول جميع عازفي الأوبرا إلى نجوم. لكن المؤكد أن مستوى فناني الأوبرا اليوم أكثر جماهيرية بل أن الدار أنجبت قادة جدداً للأوركسترا أبرزهم هشام جبر الذي قاد عروض أوبرا عايدة ومخرجين للبالية يعملون بطاقة كاملة بعد رحيل عبد المنعم كامل». وتنفي عبد الدايم وجود موقف شوفيني راض لوجود الفنان اللبناني وليد عوني داخل دار الأوبرا وتقول: «طلبت شخصياً من عوني أن يتولى إخراج عرض الاحتفال بمرور ربع قرن على تأسيس الأوبرا ولم أجد معارضة من أحد، لكنه اعتذر بسبب ضيق الوقت وفي الوقت نفسه عبر عن الفرح لتلقي هذا العرض من مكان كان جزءاً من تجربته المهمة في تطوير فن الرقص المسرحي ونأمل في أن يتعاون معنا قريباً في التدريب أو إخراج عرض جديد». وتزعم عبدالدايم أن حفلات الأوبرا في أغلبها كاملة العدد وتقول: «أجرينا تغييراً واضحاً في أنظمة الدعاية والتسويق انعكست نتائجه في نسب الإقبال التي يمكن تفسيرها كذلك بأن الأوبرا هي القطاع الوحيد الذي يقدم عروضاً فنية بهذه الكثافة في مصر وبصورة منتظمة». وفي المقابل تؤكد أنه «ليس صحيحاً أن الإقبال الجماهيري يأتي نتيجة سياسة منح دعوات مجانية لموظفي الدولة وذويهم... الدعوات المجانية بأعداد محدودة وقاصرة على فئات محددة في وسائل الإعلام التي تتابع نشاط الدار وكبار رجال الدولة والسفراء الأجانب وتخضع لرقابة محاسبية واضحة».