كان ميخائيل نعيمة صديقاً لجبران خليل جبران في مهجره، وهذا ما دار بينهما من حوار يوماً وسجله ميخائيل أو ميشا كما كان يحلو لجبران أن يناديه: «اعذرني يا ميشا، اعذرني يا أخي وحبيبي، ولا تسلني أن أفسر لك دموعي، فالدموع لا تفسر بالكلام ولا تفيض إلا حيث يتعذر الكلام، وأنت تفهم دموعي لأن بك وحدة كوحدتي، ووحشة كوحشتي، وحرقة كحرقتي، وأنت تفهم دموعي لأنك تفرح مثلما أفرح عندما تعثر على روح تفهم روحك، ما أصعب أن تعاشر الناس وتكلمهم بلغتهم فيحسبون أن لا لغة لك سواها، وعندما تكلمهم بلغتك تجدهم لا يفهمون منها حرفاً وتجدك مضطراً إما إلى الصمت، وإما إلى تدريسهم الألف والباء من هجاء لغتك»، ميخائيل: «أمن العدل يا جبران أن نلوم الناس ولا نلوم أنفسنا ونحن من الناس؟ أم من العدل أن تتطلب منهم ما لا تتطلبه من نفسك؟ أنت تطلب أن يفهمك الناس، وقد يكون أنهم لا يفهمونك لأنك لا تفهم نفسك، فهل أنت واثق من فهمك لنفسك؟»، جبران: «لا لست واثقاً يا ميشا، ومصيبتي في إنني أتكلم كما لو كنت واثقاً»، ميخائيل: «لعل ذلك مصدر العواصف التي تجتاح وحدتك، ومنبع المرارة التي تفيض من قلمك، ومنبت التمرد الذي اتخذته قوساً لك ودرعاً، فكم نتمرد على الغير جاهلين أننا لا نتمرد إلا على أنفسنا الجاهلة، وكم تهب في داخلنا عواصف تجلو ما اكمدّ من آفاق أرواحنا فنحسبها آتية من الخارج لتعكر ما صفا من آفاق أرواحنا، أو لا ترى أن ما نخبر عنه بأقلامنا ليس إلا زبداً يطفو على وجه حياتنا، أما أعماقنا الساكنة فلا تدركها أقلامنا؟». كلمة أخيرة: جبران: «هو ذا الأفلاك يا ميشا بما فيها من أجرام لا تحصى، لكل جرم دورته وسبيله، وكلها يدور حول جرم واحد فيؤلف عالماً واحداً، وهذا العالم يدور حول ذاته وحول عالم سواه، والعوالم كلها تؤلف عالماً واحداً كاملاً، كلنا دورات في دورات، وكلنا ضمن دائرة الحياة الكبرى»، ميخائيل: «فما أجهلنا يا جبران نرضى بأن ندور دورتنا وننكر على سوانا بأن يدور دورته، ولولا دورة سوانا لما كانت لنا دورتنا»...إنها خواطر فلسفية دارت بين صديقين وكشفت عن أعماق النفس التي تحار مع نفسها، وكم من حائر لا يزال يلتمس الهدى! وكم من فعل أتيته فاستغربته منك وكأن «آخر يعيش داخلك» ويتولى الزمام عنك...!!! آخر تحاول أن تتعرف عليه وعلى منطقه ولكنه لا يجيبك ويحتفظ بغموضه اللئيم...آخر عودك الظهور والاختفاء في الأوقات التي يحددها هو...آخر تحتاجه فلا تجده، ولا تحتاجه فتجده يزاحمك المكان والزمان، فإذا لم أعرفني وأعرف من يسكنني فكيف أريحني وأغالبني قدري؟ إذا لم أكن أنا، فمن أكون؟ وإذا لم يكن الآن، فمتى يكون؟ وقالوا: «النخلة مخبوءة في بلحة، والعالم مخبوء في إنسان» مصطفى صادق الرافعي [email protected]