يتقن بعض الأطراف المسيحيين اللبنانيين سياسة الهروب إلى الأمام بدلاً من تعاطيهم بواقعية مع القضايا المطروحة، وأبرزها التمديد للبرلمان في ظل تعذر إجراء الانتخابات النيابية في موعدها لأن الظروف الأمنية والسياسية لن تسمح بإتمامها، وهذا ما سيؤكده مجدداً وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق إذا ما سئل في بداية الجلسة التشريعية المقررة بعد غد الأربعاء، وعلى جدول أعمالها اقتراح القانون المعجل المكرر الرامي إلى التمديد للبرلمان... مع أن الحكومة مجتمعة تتجنب الخوض في هذا الموضوع. ولعل التباين في مواقف الأطراف المسيحيين من التمديد للبرلمان يطرح سؤالاً: ما البديل من التمديد، وكيف يمكن تفادي تمدد الفراغ من الرئاسة الأولى إلى السلطة التشريعية، ومن يضمن انتخاب رئيس جمهورية جديد في حال أصبحت الظروف المحلية ناضجة لانتخابه بدعم إقليمي ودولي وفي ظل عدم وجود برلمان؟ وعلمت «الحياة» أن المعارضة للتمديد للبرلمان باتت محصورة ب «التيار الوطني الحر» وحزب «الكتائب»، وبدرجة أقل بحزب «القوات اللبنانية» الذي أطلقت قيادته في اليومين الأخيرين إشارات إيجابية يمكن تطويرها في اتجاه موافقتها على التمديد تتويجاً للمشاورات المفتوحة التي لم تنقطع مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري وتيار «المستقبل» والمستقلين في قوى 14 آذار. وكشفت مصادر نيابية ل «الحياة» أن زعيم «التيار الوطني» العماد ميشال عون يعتبر من أكثر المتشددين ضد التمديد للبرلمان، لكنه يرفض في الوقت نفسه أن يأخذ على عاتقه تبعات الدعوة إلى إجراء الانتخابات وهذا ما صارح به عدداً من السفراء الأجانب الذين سألوه عما إذا كانت الظروف السياسية والأمنية تسمح بإتمامها في موعدها. وقالت إن عون لم يعطِ جواباً واضحاً لدى استقباله هؤلاء السفراء عندما سئل عن رأيه في قول الوزير المشنوق إن الظروف السياسية والأمنية لا تسمح بإجراء الانتخابات النيابية، إضافة إلى سؤاله عن رأيه في التمديد للبرلمان في حال انتخبه هذا البرلمان، عندما تسمح الظروف، رئيساً للجمهورية. واعتبرت المصادر أن الرئيس بري قطع الأمل بإقناع عون بالعودة عن قراره عدم التصويت ضد التمديد للبرلمان، وقالت إن موقف عون ينبع من رغبته في الدخول في مزايدة في الشارع المسيحي يمكن أن تخدمه في تسجيل نقاط إضافية ضد خصومه المسيحيين في حال ارتأوا أن هناك ضرورة للتمديد لمنع إحداث فراغ يؤدي إلى انهيار مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، ويفتح الباب أمام إعادة طرح قضية الدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي يخصص لإعادة إنتاج صيغة سياسية للنظام اللبناني. لقاء الراعي - الحريري ولم تبدِ هذه المصادر ارتياحها إلى المواقف المتقلبة للبطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي مع أنه كان أكد بعد اجتماعه مع زعيم تيار «المستقبل» الرئيس سعد الحريري في روما أنه يتحدث وإياه بلغة واحدة... ولفتت إلى أن التوافق بينهما انطلق من أن الأولوية يجب أن تكون لانتخاب رئيس جديد، وقالت إن الراعي لم يعترض في الاجتماع على أي ترتيب يمكن أن يقطع الطريق على حصول فراغ في السلطة التشريعية. وسألت المصادر نفسها: كيف يصرف ما قاله الراعي عن اجتماعه مع الحريري في الوقت الذي يساوي بين النواب الذين يحضرون إلى ساحة النجمة بناء لدعوت بري لانتخاب رئيس جديد، وبين الآخرين ممن يقاطعون هذه الجلسات؟ واعتبرت أنه آن الأوان للتخلي عن المزايدات الشعبوية في التعاطي مع التمديد للبرلمان، واعتبرت أن بعض الأطراف المسيحيين وقعوا ضحية هذه المزايدات وأوقعوا أنفسهم في حال من الإرباك، ولم يستطيعوا حتى الآن إعادة تنظيم صفوفهم تمهيداً لاتخاذ قرار واقعي من التمديد. ورأت أن التمديد للبرلمان يبقي على فرصة انتخاب الرئيس قائمة، وإن كانت الظروف الراهنة ليست ناضجة لذلك، وبالتالي يبقى تعليق انتخابه أفضل من إقحام البلد في فراغ يصعب على الآخرين أن يتداركوه ما لم يوافقوا على التمديد. غياب الكتائب وقالت المصادر عينها إن ما ينطبق على موقف عون من التمديد يسري على حزب «الكتائب» الذي تخلف ممثله عن حضور اجتماع قوى 14 آذار الذي عقد أخيراً، وخصص لتوحيد الموقف المؤيد للتمديد، مع أنه كان وعد بحضوره... في ضوء الاتصال الذي أجراه رئيس كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة برئيس الحزب الرئيس أمين الجميل قبل أن يغادر إلى باريس للمشاركة في ندوة ينظمها مجلس الشيوخ الفرنسي. وأضافت أن الجميل لم يبدل موقفه، لكنه وعد بإيفاد ممثل عن «الكتائب» لحضور الاجتماع ونقل وجهة نظره على أن يتخذ الحزب قراره النهائي في اجتماع للمكتب السياسي يعقده اليوم بذريعة أنه في حاجة إلى إجراء مشاورات بين قيادات الحزب لاتخاذ الموقف الذي يراه مناسباً... لكن «الكتائب» يميل، كما تقول المصادر النيابية، إلى التصويت ضد التمديد بذريعة أنه لا يزال يلتزم موقفه عدم حضور جلسات تشريعية ما لم يسبقها انتخاب رئيس جديد. ومع أن بعض نواب «الكتائب» يتفهمون الأسباب الموجبة التي تملي على البرلمان التمديد لنفسه، إلا أنهم يحتفظون لأنفسهم بموقفهم إفساحاً في المجال أمام المكتب السياسي لتعديل موقفه لمصلحة التمديد، على رغم أن النائب سامي الجميل يخوض معركته ضد التمديد معتبراً أن عودة الحزب عن موقفه يمكن أن تفسر أنها جاءت نتيجة زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية التي التقى خلالها كبار المسؤولين في المملكة إضافة إلى الحريري. لذلك، فإن الجميل الابن لا يريد أن يقال إن «الكتائب» قرر أن يعيد النظر في موقفه بناء لرغبة سعودية. الشراكة في الأرباح فقط إلا أن موقف «الكتائب» إذا لم يتدارك المكتب السياسي الأمر ويبادر إلى تعديله سيطرح مجموعة من التساؤلات حول علاقته بقوى 14 آذار، وما إذا كان شريكاً لها في السراء والضراء أم إنه يكتفي بأن تقتصر الشراكة على جني الأرباح على غرار ما حصل خلال تشكيل الحكومة الجديدة عندما حصد مقاعد وزارية تفوق حجمه السياسي، وربما كان سببها إحجام «القوات» عن المشاركة فيها. لذلك، فإن الآمال ما زالت معقودة على الموقف النهائي ل «القوات»، خصوصاً أن ممثله في الاجتماع الذي عقدته قوى 14 آذار ليل الجمعة الماضي، النائب جورج عدوان، لم يقفل الباب كلياً في وجه التعاطي بواقعية مع التمديد، وأبدى مرونة، لكنه لم يعطِ جواباً قاطعاً لأن القرار سيتخذه الحزب في اجتماع يعقده برئاسة رئيسه سمير جعجع في الساعات المقبلة وهذا ما أبلغه أيضاً إلى بري. وفي هذا السياق تقول مصادر في «14 آذار» ل «الحياة» إن جعجع لن يفرط بانفتاحه على بري وإن لدى الطرفين رغبة في تطوير العلاقة، كما أنه يحرص على تحالفه مع «المستقبل» لئلا يدفعه للشعور بأن تحالفهما بات من جانب واحد، أو بكلام أوضح بأن يكون حليفه الأول أي الحريري ملحقاً به، وهذا ما يدفعه إلى التدقيق في موقفه النهائي من التمديد لئلا تترتب عليه تداعيات سياسية ليست في الحسبان ويمكن أن تشعر هذا الحليف بأن لا توازن أو شراكة في اتخاذ القرار. وتؤكد هذه المصادر أن بري أراد أن يحشر الجميع، وتحديداً من يتخذون موقفاً سلبياً من التمديد، وهو يشدد حالياً أمام زواره على أن لا تمديد ما لم يتوافر له الغطاء الميثاقي، وبالتالي فليتحمل كل طرف مسؤولية الموقف الذي سيتخذه حتى لو اقتضى الأمر تطيير الجلسة التشريعية ومن خلالها إطاحة التمديد الذي يمنع حصول فراغ لأن البلد يقف الآن أمام خيارين إما التمديد وإما الفراغ. ومع أن بري ليس في وارد الدخول في سجال مع الراعي على خلفية بعض مواقفه التي أطلقها في جولته على عدد من المدن في أستراليا، فإنه حرص على تأمين الميثاقية لجلسة التمديد بكل من عون وجعجع، وكأنه قطع الأمل بتعديل موقف «الكتائب»، مع أن الأخير كان وعد بأن يعيد النظر في معارضته للتمديد لأنه يأتي في سياق انبعاث السلطة ومن دونه يمكن تلاشي الآمال في إمكان انتخاب رئيس من جانب برلمان ممدد له عندما تصبح الظروف المحلية والخارجية ناضجة. وتحذر مصادر أخرى، من أن تؤدي المزايدات في الشارع المسيحي إلى نحر الجمهورية أولاً والانتحار سياسياً، وهذا ما يستدعي تغليب لغة العقل على العاطفة وصولاً إلى التعاطي بواقعية مع التمديد، خصوصاً أن الظروف الأمنية لا تسمح بإجراء الانتخابات فحسب، لا سيما أنها تمنع إجراء الانتخابات في عدد من الجامعات التي اضطرت إداراتها إلى تأجيلها نظراً إلى اشتداد الصراع بين «التيار الوطني» و «القوات». كما أن إجراء الانتخابات إذا سمحت الظروف، بحسب هذه المصادر، سيقود إلى إقحام الشارع المسيحي في حرب إلغاء سياسية لن تقدم أو تؤخر في إدخال أي تغيير في ميزان القوى الداخلي. جعجع والميثاقية وعليه، فإن بري، وإن كان فقد الأمل في إقناع عون والجميل بتبديل موقفهما من التمديد، فهو يعلق أهمية على الموقف الميثاقي ل «القوات» الذي سيكون في الكفة المرجحة للتمديد في مقابل الكفة الأخرى المعارضة له، مع أن التصويت عليه سيحظى بتأييد أكثرية نيابية ومن بينها حول نصف النواب من المسيحيين ويمكن أن يرتفع عدد هؤلاء إذا ما انضم إليهم نواب «القوات». لذلك، فإنه ستترتب على رفض «الكتائب» التمديد تداعيات سياسية أولها أن «القوات» سيفرض نفسه في المعادلة الداخلية قوة رئيسية في مواجهة عون، وبالتالي فإن «الكتائب» سيخرج نفسه من هذه المعادلة التي يفترض أن يتم تظهيرها في أي حكومة جديدة، إضافة إلى أن جعجع سيبقى المرشح الأول لقوى 14 آذار، ولن يخرج من المعركة الرئاسية إلا بانسحاب عون لمصلحة التفاهم على مرشح توافقي. ويبقى السؤال: كيف سيواجه الرئيس الجميل كل هذه المتغيرات؟ وهل يتحمل تعريض علاقته بالحريري إلى انتكاسة؟ وماذا سيقول للرئيس بري، خصوصاً أنه يقدم نفسه مرشحاً توافقياً وأن لا «فيتو» عليه لا من حركة «أمل» ولا من «حزب الله»؟