لئن كنّا نزعم أن المنتَجَ الإبداعيَّ فعلٌ إنسانيّ لا يحفل كثيراً بجنس كاتبه قدرَ احتفاله بجودة المعنى الذي يتشكّل فيه، فإنّ أدبيات النقد الحديث فرضت في المشهد الثقافي مصطلح «الأدب النسوي» الذي تُسمّي به كتابات المرأة، وسوّقت له في كتب ومقالات، وهو ما صار محلّ اختلاف، بل وخلاف بين المبدعين إناثاً وذكوراً. ولأنَّ ثورات الربيع العربي تتهيّأ لأن تكون حاضنة لأدب جديد يمكن أن نصطلح عليه ب «أدب الثورات العربية»، فقد وجدنا فيها ما يسوّغ لنا التساؤل حول طبيعة اتصال الكاتبة العربية بأحداث واقعها، ورؤيتها الإبداعية لها ومخاوفها منها وكيف يكون بمقدورها تجاوز أنوثة نصِّها المفترَضة والارتقاء بكتابتها إلى فضاء الإبداع الإنساني؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها «الحياة» على كاتبات من البلدان العربية التي شهدت ثورات «ربيعية»، وقد نمت الأجوبة عن وعي عميق بهذه القضية المطروحة اليوم بإلحاح. أما الكاتبات فهن: سهير المصادفة (مصر)، آمال مختار (تونس)، عائشة المغربي (ليبيا)، طهران صارم (سورية)، إيمان زياد (فلسطين). سهير المصادفة (روائية مصرية) ككل شيء يتطور، تطورت كتابة المرأة خلال قرن من الزمان، وصارت الأصوات النسوية حاضرة بكثافة في المشهد الأدبي، وأصبحت مقولات الأدب النسوي تقف مرتبكة الآن أمام تجارب إبداعية شديدة الاكتمال تكتبها المرأة. كل شيء يؤثر في مسيرة كتابة المرأة، لقد انتصرت حركة التاريخ لها حين شهدت ثورات علمية وتكنولوجية وأنثروبولوجية أثبتت بقياساتها الحديثة أن المرأة لا تقل ذكاء عن الرجل ومن ثم قوضتْ نظرية أرسطو وجعلتها من أساطير الأولين، تلك النظرية التي كبَّلت المجتمعات لقرون طويلة دامغة إياها بدمغها الأرسطي والتي كانت تدعي أن «الرجل إنسانٌ كاملٌ خُلق بيد الإله، والمرأة منتوجٌ اشتقاقيٌّ منه، وعاءٌ لخصوبته المنوية. يسيطر الرجل على المجتمع لأنه يمتلك ذكاءً أعلى من المرأة». كانت المرأة في مقدمة صفوف الثوار وشغلت كل المواقع كثائرة وأم ثائر أو أخته، وقدمت نموذجاً مبهراً للعالم بأسره، ثم تتالت المتغيرات السياسية الجذرية التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة يناير، وإزاء اكتساح التيارات الدينية المختلفة لجُملة من التيارات الأخرى القومية واليسارية والليبرالية أتى برلمان ما بعد الثورة مخيباً لآمال المرأة ومقوضاً لأحلامها وهي التي شاركت مشاركة مرئية ومسموعة وفعّالة في هذه الثورة، ولكن تمثيلها في البرلمان جاء مضحكاً وغير واقعي، وطرح السؤال القاتل: هل سيدعون إلى أن تقر المرأة في بيتها فتعود البلاد عشرات القرون الأخرى إلى الوراء؟ جرت إذاً في النهر مياه كثيرة مذ اشتعل فتيل الثورة وتم تصحيح مسارها في 30 حزيران (يونيو) 2013، واطمأنت المرأة والكاتبة العربية على بعض منجزاتها وأحلامها باستكمال مسيرتها للدفاع عن كافة حقوقها، وكشف حقيقة أن المشهد الأدبي الذي ظلَّ محاصراً بظلٍّ ثقيلٍ لقطبٍ واحدٍ من قطبيْ الحياة - أعنى الرجل والمرأة - سيظلُّ منقوصاً إذا لم تكتب المرأة، وكلُّ منقوصٍ في الحياة لا يُعوَّل على أهميته أو جماله أو حتى الوثوق في تطوره كثيراً. آمال مختار (روائية تونسية) منذ إطلاق «أدب المرأة» تسميةً لما قدمته المرأة وتقدمه من منتوج لفعل الكتابة كانت تلك المقولات سيئة النيّة، إذ كانت بعقليتها الذكورية تتعامل مع منجز المرأة الأدبي على أنّه شيء أنثوي خالص يستحق الأخذ بيده تماماً مثلما يؤخذ بيد المعاق عندما يبذل مجهوداً على رغم إعاقته. أنا أؤمن بنص أنثوي وآخر ذكوري بغض النظر عن جنس كاتب النص الذي يمكن أن يكون العكس بالعكس، وذلك حسب نسبة الأنوثة والذكورة في الشخصية الكاتبة. ولا يمكن لهذه النسبة إلا أن تكون نتاجاً طبيعياً لعقلية المجتمع المزدهرة بشتى أنواع العُقد الإنسانية. وأعتقد أن ما طرأ من تحولات ثقافية عند العرب بفضل الثورة الرقمية هو الذي ساهم مساهمة فعالة في تحرير منجز المرأة العربية الإبداعي من قيوده. لقد ساهمت الثورة الرقمية في تحرير المرأة العربية من سجنها المعنوي الذي قبعت فيه رهينة للعقلية الذكورية التي لم تكن تسمح البتة للمرأة بأن تمارس فعلاً ذكورياً بحتاً بحسب اعتقادها وهو فعل الكتابة. والأكيد أن الفرحة بثورات الربيع العربي خطفت لُبّ بعض الكاتبات في البداية فكتبت البعض منهن نصوصاً وليس أعمالاً إبداعية كبيرة كالرواية والدواوين الشعرية تواقة إلى الحرية المنشودة بحق في ظل ديموقراطية وعدالة اجتماعية شكّلت الحلم الحقيقي لكل امرأة مثقفة تسعى جاهدة إلى خير وتطور وطنها. غير أن الحلم قُصف ما إن نُهبت الثورة وخطفها الإخوان. إذ حلت الفوضى وراحت المرأة المبدعة تناضل على أرض الواقع في التظاهرات في انتظار عودتها للصفحات من أجل نضال أكثر خلوداً. وقد أنجزتُ ما يجب عليّ إنجازه على مستواي الشخصي من خلال رواية «دخان القصر» الصادرة في آذار(مارس) 2013 والتي تنبأت فيها بمستقبل حركة النهضة الإخوانية بتونس وهو ما حدث فعلاً. لأن الدولة التونسية التي بناها الزعيم بورقيبة لا مكان فيها لأمثال هؤلاء. إيمان زياد (روائية فلسطينية) دعونا نُسمِّ ما تكتبه المرأة أدباً نسائياً وليس نسوياً، إذ تستخدم كلمة نسوي في مجال العلم الذي يحقق في تنمية النساء وليس ما تفعله النساء. أدب المرأة لا يزال يعاني من القمع والتقزيم على رغم الانفتاح الحاصل على كل المستويات، إذ لم يطرأ ذلك التطور على تقبل ما تكتبه المرأة ولا يؤخذ إبداعها الأدبي في الحسبان. ومع ذلك ثمة أديبات يناضلن من أجل الإعلان عن نصوصهن والمشاركة بها في محافل الأدب. ولا يخفى علينا أن الأنوثة مجال واسع للكتابة يتعاطى معه الكاتب والكاتبة من زوايا مختلفة، فالمرأة حين تكتب هي أقرب إلى التعبير عن مكنونات الأنثى وأنوثتها لكنها ترجو من المجتمع تفسير نصوصها من دون اتهامات تكال لها لأنها فقط امرأة تكتب بينما لو كتب تلك النصوص رجل فإنه لن يلقى سوى التصفيق. المرأة تحتاج إلى تفعيل دورها ومساندتها وفتح السبل أمامها لتقديم هذا الأدب وقد أثبتت المرأة في العالم قدرتها على كتابة أرقى النصوص وأبدعها. والحقيقة أن حجم الأدب النسائي ضئيل جداً مقارنة بما يكتبه الرجل، إذ لا تتجاوز نسبته 5 في المئة مما يُنتج من كتابة في الثقافة العربية. هذا مع تأكيد أن نسبة مشاركة المرأة الكاتبة لا تعكس أبداً حجم كتاباتها بل تعكس نظرة المجتمع لما تكتب، حيث هي مجبرة على حفظ «عفّة» نصوصها من أي لفظ قد يفسر على أنه بوح خاص يتعلق بتابوات المجتمع. ولعل في تعنّت الفكر الأصولي وإكراه تصوّرات المجتمع عن كتابة المرأة ما يجبر الكاتبة العربية على «التستُّر» في نصها، وممارسة النقد الذاتي عليها. ومن ثمة، فالمرأة العربية محتاجة الآن إلى صبر وقوة لتتمكّن من توظيف ثيمة الجسد، على سبيل التمثيل، توظيفاً يليق بنصوصها وبإنسانيتها معاً. والمؤسف في الأمر أن الحركات الأدبية في البلاد العربية لا تصفق معاً، وبالتالي لا تحمل ذلك التأثير في كل المجالات التي تعيق حياة المرأة وليس أدبها فقط. عائشة المغربي (شاعرة ليبية) أعلنت الثقافة الذكورية أن هذه الحضارة هي حضارة الرجال وأن النساء لاحقات بينما الحقيقة أن الحضارة الإنسانية جهود مشتركة. وقد ترتب على هذا أن القرار السياسي كان للرجال بامتياز، ولهذا كان للأدب أن يتبع هذه المنظومة الظالمة في التصنيفات. ثم ما هو المقصود بالأدب النسوي؟ أهو ذلك الأدب الذي تكتبه النساء أم هو ذلك الأدب الذي يتناول القضايا النسوية؟ من وجهة نظري لا أتفق مع هذه المسميات لأن الإبداع حالة فردية تنبع من تجربة المبدع الإنسانية بصرف النظر عن جنسه أو لونه لكن القضية التي يختارها لعمله الإبداعي هي ما توجه موضوعه. وأعتقد أن ما يحدث من انتفاضات أو تحولات عاصفة تشهدها البلاد العربية سيؤثر في الأدب والفن بشكل عام وليس في أدب المرأة فقط، وهي تحولات حملت تناقضات رهيبة في باطنها بحيث أصبحت حرية التعبير التي هي حلم المبدع متاحة ومكسباً لَمِسه المبدع في الشارع العربي الذي ظل محروماً منها لوقت طويل. لكننا نشهد في اللحظة ذاتها ظهور طواغيت آخرين يكمّمون الأفواه ويسرقون الفرح في لحظة الحرية ونعني بهم طواغيت المتشدِّدين الدينيّين الذين حملوا راية الوصايا على الفكر الإنساني الحر ورفعوا السيف لفرض أفكارهم وهيمنتهم. وأزعم أن الحرب الإرهابية على الفكر الحرّ ستطاول أول ما تطاول المرأة الكاتبة وبخاصة إذا كانت تحمل قلماً جريئاً. ولعلّ هذا ما يجعلني أشعر بقلق كبير من صعود خطاب التيارات الإسلامية المتطرّفة والتراجع المخيف للحريات الفكرية والإبداعية وخصوصاً ما اتصل منها بالنص الإبداعي وبالمرأة. ففي ليبيا مثلاً هناك تراجع كبير للمكتسبات الحقوقية التي ناضلت من أجلها المرأة وصار هناك عنف يلاحق الكثير من المبدعات الليبيات وصل إلى حدّ القتل والتهديد بالقتل وقد تعرضت أنا شخصياً لمواقف مماثلة. والأكيد أن ترسخ حرية الإبداع وتوطين ثقافة المساواة والخروج من ثوب التابوات والمحرمات ورفض هيمنة التيارات الأصولية والدفاع عن الهوية الإنسانية في قيمها الخالدة هي الأهداف السامية التي نحاول رسمها من خلال الكتابة الإبداعية. طهران صارم (شاعرة سورية) لا أؤمن بوجود اختلاف جوهري بين ما تكتبه النساء وما يكتبه الرجال، فإحساس المرأة لا يختلف عن إحساس الرجل إزاء القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية عموماً إلا ضمن حيّز ضيق جداً لا يكاد يذكر، وهذا الاختلاف مرده إلى طبيعة المرأة الفيزيولوجية فهي أكثر ميلاً للمصالحة والسلام مع قضايا الواقع من الرجل الأكثر ميلاً للمواجهة. أصبحت المرأة أشدّ التصاقاً وتأثراً بواقع ما سمي «الربيع العربي» لكونها كانت الخاسر الأكبر في هذه الفوضى. ففي أغلب الأحيان هي أم أو زوجة أو أخت مفجوعة، وأعتقد أن ما كتب من مقاربات لما يجري من تحولات في العالم العربي لا يرقى إلى مستوى الوعي المطلوب للخروج من مطبّ هذا الواقع الجديد، لكنني كامرأة وكاتبة أجد نفسي قادرة على التقاط الوجع الإنساني قدرة الرجل عليه. وقد انخرطت المرأة في البداية مع الشعارات المطروحة في هذه الثورات فشكلت لها إغراءً كونها تحمل هموماً تخصّها من حيث العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة، ولكن سرعان ما وجدت نفسها خارج سياق ما يجري، بل إن ما حصل كان أقرب إلى إقصائها واستغلالها كسلعة وجسد. ومن المؤسف ظهور مفاهيم جديدة في «الثورات العربية» جعلت المرأة عبدة لغرائز الرجل وقد تم التعبير عن ذلك بما يسمى «جهاد النكاح» على سبيل المثال، الأمر الذي أساء لصورة المرأة العربية كثيراً. وهو ما جعل الكاتبة العربية تشعر الآن بالخوف والقلق على كيانها ومستقبلها وبخاصة مع ظهور خطاب إسلامي مشوّه أعادها إلى عصر الحريم. ولأن المرأة هي الخاسر الأكبر في الحروب، وفق ما تفيده الملاحظة، فإني أعتقد أنها مجبرة على أن تمتلك رؤية نقدية بناءة لأن ما تعانيه من قمع وتهميش من سلطات المجتمع بمختلف أشكالها يمثّل معضلة حقيقية وجزءاً من قضيتها وهو ما يجب أن يبرز في أدبها.