يبدو أن التدابير الاحترازية لا تزال سارية المفعول بالنسبة إلى برنامج مهرجانات بعلبك لصيف 2013 . السنة الفائتة، باكورة تسليم رئاسة اللجنة إلى السيدة نايلة دو فريج، تمحورت كل الحفلات حول مساحة معبد باخوس، داخل جدرانه وفي الفضاء الخارجي المندرج تحته، ولم يشهد البرنامج استعراضات راقصة أو مغناة موسيقية عريضة، ما يستوجب التعامل مع أعداد كبيرة من الفنانين والتوجس والقلق حيال المخاوف الأمنية. وفي مؤتمرها الصحافي أمس الخميس في قاعة قرطاج، فندق فينيسيا، بحضور وزير الثقافة غابي ليّون، سلّمت اللجنة لهذا الموسم برنامجاً يحاكي في استراتيجيته ذلك الحرص على «الإبحار بأقل ما يمكن من المخاطرة». عملياً لا نستطيع لوم اللجنة ما دامت تتصرف بمسؤولية ومن منطلق عملاني تفرضه الحال المترجرجة، إن في سورية أو في المنطقة كلها، لكن يصعب أيضاً إغفال التوق إلى مناخات الإدهاش العالي المنوطة بذاكرة بعلبك المهرجان، علماً أن لبنان لم ينزل عن كف العفريت إلا نسبياً ونادراً، خصوصاً في الفترة اللاحقة للحرب. مع ذلك، وعلى رغم ظروف أمنية خطرة، رأينا في السنوات القليلة الماضية أعمالاً لا تستجيب للعرض والطلب «في السوق المحلي» بقدر ما تتجاوب مع رسالة بعلبك المهرجان القائمة على فتح آفاق جديدة على نخبة النخبة في الإبداع الموسيقي حول العالم، وهكذا رأينا منجزات أوبرالية مذهلة (لا ترافياتا) وعروض باليه ذات مستوى بالغ الروعة (دون كيشوت) وغيرها اخترقت حواجز الخوف وخذلت أشباح الحرب، فشكّل عبورها إلى لبنان المتألم انتصاراً معنوياً لرسالته كمنارة للثقافة والإبداع في الشرق. يفتتح مهرجان الموسم الحالي حفلاته في 30 حزيران (يونيو) بأمسية أوبرالية للسوبرانو رينيه فليمينغ، يرافقها على البيانو العازف ماكياف بيكولسكي. ورينيه ابنة أستاذي موسيقى من مدينة إنديانا في ولاية بنسيلفانيا الأميركية، تخّرجت من معهد جوليارد الشهير في نيويورك وارتقت سلّم النجومية في قفزات عريضة، أبرزها عام 1988 وهي في التاسعة والعشرين من عمرها، حين أنشدت دور الكونتيسة ألمافيفا في أوبرا «زواج الفيغارو» لموتسارت في دار غراند أوبرا في هيوستن، واستعادت الدور في السنة اللاحقة على مسرحي ميتروبوليتان وسان فرانسيسكو. مؤسسة ريتشارد تاكر للموسيقى كرّمت رينيه بجائزتها، ورعت مسيرتها اللاحقة التي طارت بها إلى أنحاء العالم لتصبح اليوم في قمة تألقها المهني، وباتت معروفة بلقب « مغنية الشعب» بسبب صوتها القزحي الذي يحمل ألواناً تشمل أنواع الغناء على اختلافها ولا تحصر اهتمامها في المجال الأوبرالي الكلاسيكي وحده. في التاسع والعاشر من آب (أغسطس) يحلّ البعلبكي الهادر عاصي حلاني ضيفاً على «بيته» مثل قلعة ضمن قلعة وفي رصيده 13 أسطوانة ومليون دعسة دبكة في أقل تعديل! ومن ستينات القرن المنصرم تزور بعلبك في السابع عشر من الشهر نفسه الشيخة ماريان فيثفول المعتبرة أيقونة من كنوز الموسيقى الشعبية (البوب) وإحدى ملهمات موسيقى الروك. أدت أولى أغانيها من تأليف مايك جاغر (رولينغ ستونز) وكيث ريتشارد، وهي في السابعة عشرة من عمرها. شقراء بريطانية ذات جاذبية عذبة وروح متوثبة، تعاونت مع أبرز موسيقيي الحقبة وبقي صوتها المخدوش حياً في ذاكرة الأجيال على رغم تدفق الأمواج الجديدة وتسارع أنماط الإنتاج الالكتروني. «خيول وكعوب عالية» عنوان ألبومها الأخير الذي صدر سنة 2011، ومن المتوقع أن تغني من أرشيفها الغنيّ ما حفظته الذاكرة الجامعة، مثل «سيستر مورفي» و «بروكن إنكليش» و «أرجوزة لوسي جوردان» وغيرها. الجمعة في 23 آب (أغسطس) موعد مع عشاق الجاز تحييه العازفة البرازيلية إليان الياس، يليها في اليومين التاليين مارسيل خليفة وحده مع عوده وشجنه المحبب لدى جمهوره الواسع ينشدهم من جديده ومن الذاكرة. وفي الثلاثين من الشهر نفسه يختتم المشوار الراقص ومصمم المشهدية الراقصة سيدي العربي الشرقاوي، حامل الجنسية البلجيكية والعرق المغربي والتراث الفلامنكي، والمؤثرات الكونية مثل الهيب هوب والكونغ فو بعدما أقام في « شراين شولين» مع الرهبان البوذيين في الصين... شيطان وملاك في كتلة واحدة، لم يترك الشرقاوي تجربة أدائية بالجسم والروح إلا خاضها ليخرج منها بصوته الشخصي، صوت جسده المسكون بالحركة. وكان الشرقاوي زار لبنان في إطار مهرجانات بيت الدين سنة 2001 وترك في الذاكرة أثراً مغناطيسياً من دون شك.