في السّابع من يوليو انطلقت مهرجانات لبنان، ولم تكن الصدفة هي التي حتّمت افتتاح المهرجانات في يوم واحد، بل هي رغبة وزارة السّياحة اللبنانيّة بتحويل لبنان من أقصاه إلى أقصاه إلى عرس فرح حقيقي، بعد الأحداث التي عصفت به مؤخّراً. خمسون سنة مرّت على الانطلاقة الأولى لمهرجانات بعلبك الدّوليّة، نصف قرن من الأعمال الفنيّة التي كتب لها الخلود بمجرّد مرورها تحت تلك القلعة الشّامخة بأعمدتها الستّة، والمعبدين اللذين تعاقب عليهما التّاريخ، وحفر على جدرانهما أبرز ما تعرّض له لبنان من غزوات تاريخيّة، تلتها منذ نصف قرن غزوات من نوع آخر، تتعاقب فيه الدّول والفرق والفنّانين ليقدّموا فناً راقياً، توقّف طوال فترة الحرب اللبنانيّة، ليستأنف من جديد، ويؤكّد على أنّ إرادة الحياة في لبنان أقوى من أي شيء. بحضور فنّي وإعلامي وجماهيري حاشد، انطلقت مهرجانات بعلبك الدّوليّة، بعيداً عن المدينة وقلعتها الأثريّة ومعبدي جوبيتير وباخوس الأثريين، لأسباب تقنيّة كما أعلنت اللجنة المنظّمة، على أن تنتقل فور نهاية العروض الثلاثة الأولى إلى بعلبك، التي أحتجّ أهلها وفعاليّاتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة على نقل حفل الافتتاح إلى بيروت، واعتصموا على مدرّج معبد جوبيتير، وأطلقوا أغاني فيروز «وينن» و«لأوّل مرّة ما منكون سوا». وبعيداً عن تلك الأجواء الضّاغطة، انطلقت المهرجانات، عبر العرض السّاحر «شعل طائرة» لمصمّمته ديبرا براون، متضمّناً ألعاباً بهلوانيّة ورقصات ذات مهارة جسديّة وغناء وموسيقى، في مزيج يشكّل أسس السّيرك المعاصر، عبر استخدامها تقنيّات الإضاءة والصّوت، ولعلّ مشاهدي السّيرك تفّهموا فور انطلاق الحفل السّبب الذي من أجله استعارت بيروت حفلة افتتاح مهرجانات بعلبك، إذ إنّ السّيرك أعدّ خصّيصاً للأماكن المغلقة، المسقوفة والتي تؤمّن لبعض لوحات العرض غلافاً تقنياً وآمناً لألعاب الجمباز التي لا يمكن القيام بها في الهواء الطّلق، وتحديداً في قلعة بعلبك ومعبديها. وتعتبر ديبرا براون، أهم مصمّمة رقصات في العالم، حيث عملت مع أشهر الفنّانين العالميين مثل مادونا وإيروسميث، وقد حازت على عدّة جوائز وتنويهات تكريم في ميدان السّيرك والتّصوير والجمباز، ولعل هذه الشّموليّة في المواهب ربطت اسم براون بمؤسّسة «سيرك الشّمس» الذي صمّمت تسعاً من رقصاته الشّهيرة. «شعل طائرة» الذي يعرض على مدى ثلاث ليال، صمّم خصيصاً لمهرجانات بعلبك، بمشاركة أكثر من مئة فنّان بين راقصين وعازفين ومغنّين وموسيقيين وبهلوانيين من مدينة مونتريال الكنديّة، الذين قدّموا عروضاً خياليّة مبهرة. وبزخم مشابه انطلقت مهرجانات بيت الدّين مع العازف الهندي رافي شنكار الذي زار لبنان قبل اندلاع الحرب فيه، وأحيا حفلات موسيقيّة، ليعود اليوم بعد غياب ثلاثين عاماً، ترافقه ابنته أنوشكا التي شاركته العزف مع عازفين متخصّصين. وشنكار ابن الخامسة والثّمانين عاماً، يعتبر أحد أبرز الفنّانين الذين أخرجوا الراغا الهنديّة من فولكلوريّتها لينطلق بها إلى أفق أوسع، وقد كتب بالموسيقى انتصار الماهاتما غاندي على الظلم، وكانت لكل مقطوعة من مقطوعاته رسالة إنسانيّة. قصر المير أمين كان شاهداً على انطلاقة مميّزة لمهرجان هذا العام تبشّر بالكثير. أمّا في مدينة صور، فقد غصّ المدرج الرّوماني بالآلاف ممن حضروا الحفلة الافتتاحيّة لمهرجانات صور، التي تنطلق بعد ما أشيع عن عزم اللجنة المنظّمة على إلغاء مهرجان هذا العام، والانطلاقة لبنانيّة بامتياز مع الأوركسترا السّيمفونيّة الوطنيّة التي قدّمت أهم المقطوعات الموسيقيّة لروسيني وشوبان وموزار وغيرهم، مع أكثر من مئة عازف، كما عزفت الفنّانة هبة قوّاس أربع مقطوعات من تأليفها، وقدّمت أغانيها الأوبراليّة التي كتب كلماتها الشعراء أنسي الحاج وابته ندى، هدى النّعماني وجورج جرداق. مهرجانات هذا العام تميّزت بالرّقابة الأمنيّة المشدّدة، وبانتشار كثيف لعناصر قوى الأمن الدّاخلي التي شدّدت على توفير أقصى درجات الحماية للجمهور الحاضر والفنّانين المشاركين.