لا شيء يطغى هناك على الصوت العالي، هي إذاً سمة لعاصمة تنضح شوارعها بالضجيج، مرة تجده نابعاً من تظاهرة تحولت في لحظة إلى عمليات كر وفر بين قوات الشرطة والمتظاهرين، وأخرى يصلك من مشاجرة بين اثنين اختلفا على شرعية نظام عُزل ونظام حلّ حديثًا، ولكنه أبداً لا يأتي من صوت يغني... وهو ما كسره سيد رشدي الذي اختار لنفسه أن يعلو صوته «بالغُنا». وإن كنت من ساكني القاهرة أو ذلك الوافد إليها لأيام وسترحل، فبالتأكيد زرت ولو مرة واحدة الشارع الأشهر في العاصمة، «المعز لدين الله الفاطمي»، المميز بروائح البخور والعطور المنبعثة من دكاكينه. لكن الشارع سيلفتك بجديد طرأ عليه: غناء بالمجان... صوت يطربك في وسط الشارع، يؤدي أغنيات «الفن القديم»، فيلتف حوله المارة دقائق ثم يرحلون ومن بعدهم يأتي آخرون. سيد رشدي اختار أن يكون وجهاً مختلفاً في عاصمة اعتادت منذ فترة أن تصبح وتمسي على أخبار لا يزيد نيلها إلا «نيلة». هو واحد من قليلين «نجوا» من دوامة أربع سنوات - منذ اندلاع الثورة - أفقدت المصري صوابه. «قررت ألا أتأثر بالسياسة، ما فيش حاجة تقدر تزعلني»، يقول رشدي، الذي ينتمي بحكم مهنته إلى أكثر فئات الشعب حزناً، فهو عامل في مهنة مرتبطة بالسياحة (نقّاش نحاس)، وبالتالي متوقف جبراً عن العمل. ينهي كلامه ليبدأ وصلة غناء جديدة تلبية لطلب هذا المار أو ذاك الجالس بجواره. يغني ويكرر لأهل السيدة «ساكن في حي السيدة»، ليرد عليه إسكندراني ب«يا قمر يا إسكندراني»، وينبري ثالث ليغني «وحبيبي ساكن فى الحسين»... وهنا تكتشف أن كل الأغاني من أعمال محمد رشدي. ويبرر بالقول: «أنا عاشق له وسميت نفسي على اسمه (سيد رشدي) ». ويوضح أن علاقته بصاحب «كعب الغزال» بدأت من شبابه عندما كان يحضر حفلاته، في الخمسينات وهو في عمر العشرينات، بما يعنى أنه الآن تجاوز السبعين عاماً، وهو ما يتناقض مع هيئته من وجه خالٍ من تلك التجاعيد السبعينية أو هذه الانحناءة التي تجتاح أجساد كثرة ممن تجاوزوا الستين. يسترسل في حديثه ولا يبرح مكانه إلا ليذهب لشراء هذا الشيء أو ذاك. يدخل أثناء سيره في وصلات جديدة، لكنها هذه المرة كلامية تنتهي دائماً بطلب غناء، وهنا يبدأ في غناء من نوع آخر (مزيج من الصوت الحلو والسخرية والتنكيت) فيقول لصاحب عربة الكبدة: «ساكن في حي السيدة وببيع كوارع في الحسين»... يظل هكذا في يومه بين الغناء والضحك مع مَن يعتبرهم مستمعيه ليأتي نهاية اليوم ويبدأ جلب مستلزماته من «عيش وجبن»، عائداً إلى بيته في منطقة حلوان جنوبالقاهرة.