حفظ البابا بنديكتوس السادس عشر لنفسه مكاناً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية بإعلان استقالته من الكرسي الرسولي. وسجل انه تحلى بشجاعة شخصية استثنائية، وفي سابقة على امتداد ستة قرون، بإعلانه، وهو يتمتع بكامل قواه العقلية، انه لم يعد قادراً على القيام بمهمات منصبه الذي اختير له على مدى الحياة ، نظراً الى تقدمه بالسن، اذ بلغ الخامسة والثمانين. واستقال البابا رغم كل ما يوفره المنصب من سلطة وهيبة. لكن هذه الشجاعة الشخصية لا تخلو من مفارقة وازدواجية، وبعض الخبث، اذ ان من المعروف ان المجمع الانتخابي الفاتيكاني الذي يختار البابا الجديد يمنع اعضاءه الذين يتجاوزون الثمانين من العمر من المشاركة في الاختيار، لأن في مثل هذا العمر قد يفقد الانسان القدرة على التقدير والحكم الصائب في انتخاب الحبر الاعظم. فهل تكون الخطوة الشجاعة لبنديكتوس السادس عشر دافعاً لخلفائه من اجل ان يطبقوا على انفسهم ما يطالبون به المجمع الانتخابي ويتخلون عن المنصب عندما يبلغون الثمانين؟ في مثل هذه الحال تأخذ هذ الشجاعة الشخصية كل معناها التاريخي، اذ تتيح ان يبقى رأس الكنيسة محافظاً على كرامته كانسان بلغ عمراً متقدماً، وتتيح ان يبقى متحلياً بكل قدراته من اجل ادارة مهمات المنصب وهي كثيرة جداً ومتشعبة ومتعبة. في المقابل، طبع جوزيف راتزينغر ولايته البابوية بشخصيته اللاهوتية المحافظة. فهو لم يتمكن من الارتفاع عن كونه لاهوتياً معروفاً بتزمته الكاثوليكي الى مرتبة القيادة في عالم متعدد الاديان والاتجاهات، ومتغير في العلاقات والمفاهيم والخيارات والقيم. ومعروفة تلك العبارة الشهيرة عن الاسلام والعنف، والتي لم تمحُها بسرعة تبريرات المناسبة لقولها وتأكيد احترام العقائد الاخرى. فهي جاءت في سياق فهم لاهوتي لا تاريخي للعلاقة بين الكثلكة والاسلام. ولذلك، ورغم مساعي الفاتيكان، لم ينجح الحوار المسيحي - الاسلامي في تبديد هذا الموقف المحافظ من الاديان الاخرى. واذ سعى البابا بنديكتوس السادس عشر الى ايجاد صيغة لانهاء سوء الفهم المتبادل مع اليهود، وأقدم على خطوات رمزية في هذا الاتجاه، ظل الاضطراب سمة للعلاقة بين الجانبين. لكن الجانب الأكثر محافظة في موقف البابا المستقيل يبقى في القضايا الاجتماعية والقيم التي تمسك بها في معالجة مشكلات تتفاقم في البلدان ذات الغالبية الكاثوليكية، خصوصاً في افريقيا واميركا اللاتينية. ولعل في مقدم هذه المواقف ما تعلق بقضية الانجاب وتحديد النسل في بلدان تعاني فقراً مضاعفاً: تزايد كبير في عدد السكان وتضاؤل مستمر في الموارد. كما بدت مواقفه من اسقفية النساء والمثلية الجنسية، خصوصاً في اوروبا، بمثابة تراجع كبير عن قيم مجتمعية باتت ثابتة في هذه المجتمعات. كما اثار بنديكتوس صدمة، حتى داخل الكنيسة الكاثوليكية، بانفتاحه على التيار الكاثوليكي الاصولي الذي يتطابق في قراءته للتاريخ والعلاقات البشرية مع اكثر الاجنحة تطرفاً في الاحزاب اليمينية الاوروبية. عاصر بنديكتوس السادس عشر اسوأ ازمتين في كنيسته وفي الفاتيكان. الاولى تمثلت بفضائح الاغتصاب التي اقدم عليها رجال دين كاثوليك في حق قاصرين من ابناء رعاياهم، خصوصاً في اوروبا واميركا الشمالية. واذ تعود الوقائع الى فترة ماضية، وحاول البابا ان يصدر عقوبات متأخرة في حق مرتكبيها، فان ذلك لم ينعكس قراءة جديدة للظاهرة، وسعياً الى ايجاد سبل عدم تكرارها. لا بل تمسك البابا بالقراءة الأكثر محافظة لمعنى الحياة الكهنوتية. الازمة الثانية تتعلق بخيانة الامانة لسكرتيره الشخصي، بسبب تسريبه وثائق فاتيكانية تكشف الضبابية والغموض وصراعات النفوذ واستغلال المواقع في الكرسي الرسولي. دين السكرتير بالسجن، لكن البابا لم يقدم على ما من شأنه ان يحد مما كشفته الوثائق. ليبقى الفاتيكان، وهو يتمتع بصفة دولة، من الاكثر غموضاً في العالم لجهة ادارته. لقد كان البابا بنديكتوس شجاعاً بتقديم استقالته، لكن هذه الشجاعة خانته عندما كانت مطلوبة للتجديد في كنيسته وجعلها جزءاً من العالم الحديث.