الحدث التاريخي يشكل قطيعة بين الماضي والحاضر، يفصل ما كان عما سيكون. من هذا القبيل كانت الأحداث الكبرى في تاريخ العرب والبشرية، مثل ظهور الحضارة الإسلامية، وحركة الإصلاح الديني في أوروبا، وثورتي 1789 و1848 في فرنسا، وسقوط جدار برلين 1989، وتفجيرات نيويورك 2001... فهل ينطبق ذلك على ظاهرة الربيع العربي؟ من هذه المقدمة الإشكالية ينطلق هاشم صالح في «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ» (دار الساقي 2012)، ليخلص إلى أن الربيع العربي ليس على مستوى تلك الأحداث الجسام، لأننا لم نشعر بحصول قطيعة كبرى مع الماضي، بل شهدنا العكس تماماً، أي: العودة إلى الماضي، فالعالم العربي والإسلامي حتى الآن يعتقد بأن التقدم يعني العودة إلى الوراء وليس القفز إلى الأمام. إلا أنه مع ذلك، يجب الاعتراف أن المجتمع بدأ يتحرك ويتنفس، فقد حرك الربيع العربي المستنقع الآسن، وكشف عن عورات الأنظمة العربية المقطوعة عن شعوبها، المتكلسة فكرياً، والمتحنطة أيديولوجياً وشعاراتياً. ومن هذا المنظور، يمثل الوضع الحالي نقطة تقدمية في المسار العام لحركة التاريخ، مع أن الثمن المدفوع سيكون باهظاً. يستلهم المؤلف في قراءة انتفاضات الربيع العربي بعض أطروحات هيغل، ذروة الفلسفة المثالية الألمانية وآخر فيلسوف شمولي في التاريخ، ففي رأي هذا الفيلسوف الكبير، أن التاريخ عقلاني، وهو يمشي في اتجاه المزيد من العقلانية والأخلاق والنظام والحرية، على الرغم من أنه يبدو لنا عبثياً ولامعقولاً، وعلى هيئة عنف أعمى لا غاية له، مليئاً بالحروب والظلم والقهر والتناقضات. لكن الشر في نظر هيغل ليس كله شراً، فللشر وظيفة إيجابية ينبغي ألاّ نستهين بها، فلولاه لما تطور التاريخ إلى الأمام. ضمن هذا المنظور الهيغلي يصبح للشر معنى، ولا يعود شيئاً عبثياً أو شاذاً أو اعتباطياً، بل يصبح ضرورياً لتحقيق التقدم في التاريخ. وفي رأي المؤلف أن فلسفة التاريخ عند هيغل تنطبق على الواقع العربي والإسلامي، فما يحصل من كوارث وفواجع اليوم في سورية أو العراق أو اليمن أو كل مكان من أرض العرب، ربما كان ضرورياً لإيجاد تشخيصات فلسفية عميقة ومضيئة للواقع العربي والإسلامي. ومن هذا المنظور بالذات، تمكن المراهنة على أن عذابات الشعوب العربية وتضحياتها لن تذهب سدى، إذ لا بد من اكتوائها بنار الأصولية لتتحرر منها لاحقاً. هذا هو ديالكتيك التاريخ أو قانونه الأعظم الذي اكتشفه هيغل، والذي يرى أن الصراعات الطائفية والحروب الأهلية وتطاحنات البشر العنيفة ليست إلا «المواد الخام» التي يستخدمها العقل لكي يحقق مبتغاه، أي حرية البشر وسعادتهم، فالعقل يتوصل إلى مبتغاه عن طريق اللاعقل، وهنا بالذات يكمن مكر العقل. وعلى أساس فلسفة التاريخ عند هيغل، لا بد من دفع الثمن باهظاً للوصول إلى نتيجة، فلا داعي للخوف من كل الكوارث ومن كل الضحايا والفواجع والآلام التي يعاني منها الشعب، فهي لن تذهب سدى، إنها الثمن المراق الذي تدفعه الشعوب السائرة نحو الحرية. لذلك يبدي المؤلف تفاؤله بما يحصل الآن، لأن حركة التاريخ العربي - في رأيه - تتقدم إلى الأمام، في الوقت الذي تبدو كأنها تتراجع إلى الوراء، وهنا أيضاً يكمن مكر التاريخ. فلنترك الأصولية تحكم وتسيطر، ليتولد رد فعل ضدها... وهكذا نجد أن الأطروحة (الأصولية) سوف تولِّد الأطروحة المضادة، أي الحداثة الليبرالية. وفي نظرة إلى ما بعد الربيع العربي، رأى المؤلف أن المعركة بين الأصوليين الظلاميين والمثقفين المستنيرين قد اندلعت على مصراعيها، وليس أدل على ذلك من محاكمة عادل إمام، وسيطرة الأصوليين على الشارع في مصر، وتخويفهم النساء والصحافيين والجامعيين وحرية الفكر عموماً، وتهديد نخبة من المثقفين والمثقفات في تونس بالقتل إن لم يتوبوا، فضلاً عن إعادة إحياء عقلية محاكم التفتيش من جديد، وتوجيه الاتهام بالزندقة إلى مجموعة من رموز الفكر التنويري العربي المعاصر، وصل إلى حد التطاول على قامات كبرى مثل نجيب محفوظ وعادل إمام، الأمر الذي يؤكد أن لا ثورة سياسية من دون ثورة تنويرية، فليس مقبولاً أن تهب الجماهير إلى التظاهر في مدينة قنا المصرية احتجاجاً على تعيين مسيحي محافظا لها، وأن ترفع شعارات من نوع «لا ولاية لكافر على مؤمن»، وأن يعاد الاحتكام إلى الشريعة كمصدر رئيس للتشريع، بعد أن كان الدستور الليبرالي لعام 1923 قد نص على أن المصريين سواء لدى القانون، لا تمييز بينهم بسبب الأصل أو اللغة أو الدين. لهذا السبب، ذهب صالح إلى أن الثورة التنويرية لن تحصل قبل أن تشبع الأصولية من ذاتها وتستنفد كل طاقاتها وكل إمكاناتها وتفقد مصداقيتها، فالمعركة إذن فكرية قبل أن تكون سياسية، وإذا لم تُربح فكرياً فلن تُحسم سياسياً، فالمشكلة هي مع عقلية القرون الوسطى التي لا تزال مسيطرة على جماهيرنا بنسبة ثمانين في المئة، ولن تحصل الثورة العربية التنويرية قبل أن ينتصر التأويل الجديد للإسلام على التأويل الطائفي القديم الراسخ في الجذور. لكن الانتفاضات الحالية تشكل خطوة مهمة إلى أمام، إلا أنها ليست نهاية التاريخ. بعدها سوف تندلع المعركة الفكرية والسياسية الكبرى في العالم العربي. إن الثورة الفكرية أو العقلية لم تحصل بعد في عالم الإسلام، وهي التي ستحسم الأمور يوماً وتُدخل العرب في التاريخ بعد أن خرجوا منه لعدة قرون، فليس كافياً على الإطلاق الاحتكام إلى ديموقرطية غير ذات خلفية ليبرالية، لأن الشيء الأساسي هو التوصل إلى النظام الليبيرالي الدستوري المستنير، بعدئذ تجيء الديموقراطية كتحصيل حاصل، وهذا ما حصل في الديموقراطيات الحديثة، من بريطانيا إلى فرنسا، إلى أميركا... إلا أن المؤلف يبدي تشاؤمه بمثل هذه الثورة التنويرية في المدى القريب في العالم العربي، فإزاء السؤال الإشكالي: هل نحن العرب مستنيرون؟ يرى أننا لسنا مستنيرين، ولسنا سائرين نحو الاستنارة أصلاً، بل إننا سائرون في الاتجاه المعاكس حالياً، إلا أنه مع ذلك يصر على القول إن المستقبل أمامنا، وإن الربيع العربي حرك المستنقع الراكد، الذي إن لم يتمخض عما نرجوه دشن صيرورة تاريخية لن تتوقف تفاعلاتها الخلاقة عما قريب. نرى أخيراً أن المؤلف قدم رؤية جديدة لظاهرة الربيع العربي في ضوء فلسفة التاريخ، الأمر الذي افتقدته الدراسات السياسية السائدة، وأسقط الكثير من التصورات والأوهام التي طاولت هذه الظاهرة، بافتراضها رؤية تجريدية طوباوية لحركة التاريخ، رؤية صاعدة على الدوام لا تشوبها أزمات ولا صراعات ولا انتكاسات. إلا أن الكاتب نفسه ينساق إلى هذا المنحى الطوباوي، عندما يتصور الانفصال بين معركة فكرية وأخرى سياسية، إذ إن ثمة تلازماً في رأينا بين الفكري والسياسي، فحركة التاريخ واحدة لا انفصام فيها أو بين تجلياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية. * كاتب لبناني