بعد فوز الروائي وكاتب القصة القصيرة الصيني مو يان بجائزة نوبل للآداب الشهر الماضي وجد عضو الأكاديمية السويدية للآداب غوران مالكمفيست نفسه في مهب اتهامات، خصوصاً أنه الوحيد من بين أعضاء الأكاديمية الذي يتقن الصينية. وقد عرض مالكمفيست على زملائه من أعضاء لجنة جائزة نوبل للآداب ترجماته لبعض أعمال مو يان إلى السويدية التي لم تنشر حتى هذه اللحظة، ويحتمل أن يستفيد منها معنوياً ومادياً، إذ قد تتسابق إليه دور النشر لترجمة أعمال الكاتب الصيني إلى السويدية. فهو، كما اعترف في المقابلات التي أجريت معه بعد فوز مو يان بدوره الكبير في إقناع اللجنة بمنح الجائزة هذا العام لكاتب يعدّه واحداً من أهم الكتاب الصينيين المعاصرين. لكن ما لفت انتباهي في تصريحات مالكمفيست هو تقييمه لأعمال مويان، فهو يفضل قصصه ورواياته القصيرة على رواياته الكبيرة، لأن الكاتب الصيني يسيطر على حبكته القصصية أكثر (كما يمكن أن نفهم) من سيطرته على حبكة تلك الروايات الضخمة ومسار أحداثها وشخصياتها، ومن ضمنها رواياته الكبيرة «الذرة الرفيعة الحمراء» و «جمهورية الخمر» و «نهود كبيرة وأرداف واسعة». ما يمكن استنتاجه أيضاً من تصريحات الأكاديمي السويدي، الذي كانت له اليد الطولى في فوز مو يان بنوبل، أن لجنة الجائزة ارتكزت في حكمها على الأعمال القصيرة ومن ضمنها القصص القصيرة، لا على الروايات الكبيرة التي جلبت الشهرة للكاتب الصيني في بلاده وخارجها. إن القصة القصيرة، وبعض القصص الطويلة نسبياً التي يمكن تصنيفها في إطار القصة القصيرة أيضاً، تحتل أهمية كبيرة في عمل مو يان، حتى إن روايته الضخمة «جمهورية الخمر» تتضمن عدداً من القصص القصيرة التي ضمّنها نصه الروائي لتضيء الحبكة المركزية للعمل. وتمثل هذه القصص، التي يشير الراوي إلى أنها مكتوبة بقلم كاتب شاب يقوم بمراسلة الروائي مو يان نفسه ويستحثه للتوسط في نشر تلك القصص، من وجهة نظري الفصول الأنصع أسلوباً والأكثر فتنة وجمالاً في هذه الرواية الكبيرة التي يبدو لي أن خيوطها تفلت من بين يدي الروائي. إن مو يان نفسه يبدي اعتزازه بما كتبه من قصص قصيرة على مدار تجربته؛ فهي من وجهة نظره لا تقل أهمية عن رواياته. فهو يتمتع بإحساس بالغ الرهافة في مقاربة مادته القصصية، سواء من حيث زوايا النظر إلى الأحداث والشخصيات أو الأسلوب أو النزعة الإنسانية الشديدة الحضور في قصصه بصورة خاصة. وقد كتب مو يان، إلى جانب الروايات، نحو مئة قصة يقول عنها إنها تمثل بالنسبة له مركز إنجازه الأدبي، وصورة عن تفكيره بالحياة الصينية بصورها المختلفة. ما يهم في هذا السياق هو دفاع مو يان المتحمس عن شكل القصة القصيرة في زمن تحوّل فيه معظم كتاب القصة إلى الرواية لكونها تجلب الشهرة والمال. فهو بدأ كتابة القصة القصيرة، وواصل كتابتها حتى بعد أن لاقت رواياته الشهرة والرواج، وتحولت إلى أفلام، وطبعت منها ملايين النسخ، وجعلت اسمه لامعاً في اللغات التي ترجم إليها. لقد ظل الرجل وفياً لشكل القصة القصيرة، يرى فيه طريقة متفردة للنظر إلى العالم تختلف اختلافاً بيّناً عن الرواية. ويمكن لي أن أؤكد، من خلال ما قرأت من رواياته ومجموعاته القصصية، أن عالم قصصه يتمتع باستقلالية واضحة عن عالم رواياته؛ فهو وفيّ لشكل القصة القصيرة التي تركز على حدث بعينه، أو ثيمة محددة، وتقوم بتسليط عدستها عليه بحيث تكشف عن اللحظة الفارقة التي ينطوي عليها جوهر الحدث أو التجربة. إنه يكتب قصة تتمتع بالخصائص المعروفة للشكل القصصي التقليدي، من وصف مركز للحدث والشخصيات التي تتحرك ضمنه، والتمتع ببداية ووسط ونهاية وذروة ولحظة تنوير. لكنه في الوقت نفسه يغلف كل ذلك برهافة أسلوبية عالية ويعمّق عالم قصصه بتعليقات جانبية توفر للقارئ فهماً عميقاً للحدث وسلوك الشخصيات في القصة. إنه قاص بارع، بالدرجة نفسها التي يمكن عدّه روائياً متميزاً لا يمكن نسيان أعماله بعد قراءتها. إن دفاع مو يان الحار عن شكل القصة القصيرة، وقدرته اللافتة على كتابة القصة القصيرة بوصفها قصة لا فصلاً من رواية، ومواصلته إنتاج القصة تلو القصة، إلى جانب الروايات الضخمة، هو دليل على أن القصة القصيرة مازالت تتمتع بالحيوية في الآداب غير الغربية، ومنها الأدب الصيني المعاصر الذي لا نعرف عنه نحن العرب الكثير. سوف يبدأ المترجمون العرب هجومهم على ترجمة روايات مو يان، وهناك رواية «الذرة الرفيعة الحمراء» جاهزة للظهور عن المركز القومي المصري للترجمة، لكنهم قد ينسون قصص هذا الكاتب اللامع. فلعلهم يتصدون أيضاً لترجمة بعض مجموعاته القصصية لأنها لا تقل أهمية عن رواياته.