في ماضينا السياسي العربي غير المشرف كانت دائماً الجدران «لها آذان»، في إشارة إلى أجهزة التنصت المزروعة في كل مكان، وكم كان من عملاء متطوعين لنقل كل حرف يتفوه به المواطن. كان تشخيص الجدران بوصفها شخصاً له آذان (وقد تحول إلى جزء من اللغة من دون الالتفات الى المحسنات البديعية!) يعبّر بتكثيف شديد عن حالة من الخوف الناتج عن تسلط جهاز سلطوي قمعي يراقب كل كلمة. كانت الجدران سلاحاً يستخدم ضد المواطن، لكنّ الزمن ولّى، وبقيت الجدران ليوظفها المواطن لمصلحته ويحولها إلى أقوى سلاح ضد السلطة. ببساطة، وقع تبادل أدوار عبر تبديل طرفي المعادلة. ولكن يبقى هناك فارق جذري يصب لمصلحة المواطن، ففي حين كانت السلطة توظف الجدران في الخفاء عمد المواطن إلى استخدامها في العلن ليزداد نبلاً عن السلطة القمعية. هكذا بدأت جدران القاهرة تهتف للشعب منذ 2011، ليظهر فن الغرافيتي الذي تحول إلى أكثر وسائل التعبير والاحتجاج سحراً. يعتمد هذا السحر على الشكل الجمالي كأحد العناصر بالطبع، لكنّ القوة تعتمد على الرسالة الواضحة البسيطة التي يعبّر عنها غرافيتي جدران القاهرة، أضف الى ذلك ألمعية الفكرة المرسومة أو التعليق والطرافة الواضحة في شكل عام. ربما كانت كلمة «ارحل» وهتاف «الشعب يريد إسقاط النظام» هما أول ما ظهر على جدران القاهرة، ومع الوقت تحولت الجدران إلى ما يعادل مساحة احتجاج واضح وصريح، ثم إلى سجل للشكاوى والطلبات، ثم أصبحت كراسة يوميات يسجل عليها الجميع صور الشهداء المنسيين والمعتقلين، حتى كان أن اكتست برمزية عالية حولتها إلى أيقونة ثورية. وقد تنبه العديد من الكتّاب للدور الذي يلعبه الغرافيتي في الثورة المصرية، فكتب الصحافي في «أخبار الأدب» أحمد ناجي موضوعاً في حزيران- يونيو 2011 عنوانه «الغرافيتي- يحيا الفن الزائل»، وحصل به على جائزة نادي دبي للصحافة. منذ البداية إذاً ونحن ندرك أن الغرافيتي فن زائل لسهولة محوه، لكنه تحول إلى سجل تأريخ للثورة يضم كل الآمال والأحلام وصرخات الاحتجاج، دفتر يؤكد «لن ننسى»، مساحة تحالف وتضامن. وباختصار عندما تحول الغرافيتي إلى ذاكرة حقيقية شعبية للثورة لم نرد أن نمحوه، فقد أصبح جزءاً من الحياة اليومية، وتاريخاً مرسوماً، ومحوه هو المعادل لمحو الذاكرة. ولأن السلطة تتمتع بقصر نظر دائم وأبدي فهي وقعت في المحظور. استيقظ أهل القاهرة ذات يوم ليجدوا جدران شارع محمد محمود (الذي سُمّي شارع عيون الحرية لكثرة من فقدوا عيونهم في معاركه)، وقد تحولت إلى جدران جرداء خالية من كل رسوم الغرافيتي. ولأن السلطة تميل إلى الجبن فقد أنكر كل طرف علاقته بما حدث، وواقع الأمر أن السلطة العقيمة لم يخطر ببالها حجم الغضب الذي نتج عن هذا المحو. أدرك الجميع أن هناك من يسعى الى طمس ذاكرة الثورة، وطمس الانتهاكات والاحتجاجات، طمس الماضي من أجل صوغ حاضر بلا ذاكرة. ما كان من هذه السلطة إلا أن استيقظت في اليوم التالي لتجد جملة مصرية صميمة على الجدران «تعيشوا وتدهنوا» في إشارة ساخرة إلى فعل المحو. وعادت الجدران لتموج مرة أخرى برسوم الغرافيتي. لم تعرف هذه السلطة أن مدخل مدينة برلين وبالتحديد مدخل القطار يموج برسوم الغرافيتي التي تعتبرها المدينة إحدى العلامات الجمالية الدالة عليها. تحدى فن الغرافيتي الزوال عبر عدسات الكاميرا الموجودة في كل مكان، فكان الهواة والمحترفون يلتقطون صوراً لكل رسم. وانتشرت الرسوم في كل مواقع الانترنت، إلا أن مايا جويلي أنشأت صفحة على الفايس بوك وسمّتها «غرافيتي مصر»، ومع الوقت تحولت هذه الصفحة إلى نواة للكتاب الذي ظهر حديثاً وعنوانه «الجدران تهتف: غرافيتي الثورة المصرية» (680 صفحة من القطع المتوسط) وقد صدر عن دار نشر زيتونة وقام شريف البرعي بتحريره. قدم كل المصورين والفنانين صورهم تطوعاً بلا أجر، وتضمن الكتاب الى الصور، يوميات الثورة من يناير 2011 حتى يونيو 2012 (ما سمّي المرحلة الانتقالية) باللغتين العربية والانكليزية. وتضمن أيضا تقديماً قصيراً من رشا عزب ومالك مصطفى. وتقول رشا: «نحن لا نهاب الجدار، ربما هو الذي كان يهاب الألوان والفرشاة بعد سنوات من الوحدة أو كتابة الإرشادات السخيفة أو التعليمات العسكرية (ممنوع الاقتراب والتصوير)... لكنه الآن صديق كريم... ها هو يحمل الأم بعويلها المكتوم... وجه الشهيد الحي وبندقية البطل الشعبي وجثمان قتيل الزنزانة وعبارات الرابضين فوق الكلمات... فوق الأزمات... العابرين للمعارك والذين يشتهون في الموت حياة أخرى». لم يقتصر العمل على هؤلاء، بل هناك فريق كامل متطوع بالأجر والوقت قام بالترجمة وكتابة اليوميات وتقديم الصور. أما الرسوم التي لم تظهر في الكتاب فهي بالتأكيد محفوظة وفي انتظار من يقرأها. هكذا تحول الفن الزائل إلى إحدى وسائل قراءة تاريخ الثورة المصرية، التاريخ الحقيقي الجذري الذي تسعى السلطة لتنقيحه وتعديله ليتسق مع مصالحها وأهدافها. وإذا كان منهج التاريخانية الجديدة يوظف كافة مفردات الحياة اليومية (أدب ورسائل وآثار وسجلات .. إلى آخره من كل ما ليست له علاقة بكتب التاريخ الرسمي) لقراءة التاريخ أو بالأحرى إعادة قراءته، فإن الغرافيتي هو أحد أهم هذه المصادر الآن التي تكشف عن الأبطال الحقيقيين في هذه الثورة.