بعضهم رآه دليلاً عملياً على دواعي استمرار الثورة، فيما اعتبره آخرون مجزرة فنية لقلب الثورة النابض، في حين هلل بعضهم ورقص وفرح لوجود ساحة بيضاء جديدة للإبداع والاعتراض والاحتجاج. ويبقى فصيل «ملتزم» صفق طويلاً لإزالة «الشخبطة» وهلل كثيراً لإنهاء «المعيلة» معتبراً إزالة «غرافيتي» شارع محمد محمود الذي شهد أعنف مواجهات الثورة المصرية «فتحاً مبيناً» و»خيراً كثيراً». الإثارة الحقيقية شهدها أثير «تويتر» منذ ليل أول من أمس والذي كاد ينفجر تحت وطأة الاستغاثات والآهات والتوجعات العنكبوتية الشبابية الثورية من الهجمة الحكومية الشرسة على جدران الجامعة الأميركية في القاهرة وتحديداً في شارع محمد محمود وإزالة رسوم «غرافيتي» أشعلت ثم أججت وبعدها أرخت وأخيراً تحاول جاهدة الإبقاء على قلب الثورة المصرية ينبض لعل معجزة تحدث وتعود إلى التنفس بصورة طبيعية. وفي الأحوال الطبيعية ينظر المصريون إلى أية محاولة حكومية أو جهد رسمي لتجميل الشوارع أو إزالة القمامة أو طلاء الجدران باعتبارها عملاً جليلاً وجهداً مشكوراً، إلا أن الأحوال التي يعيشها المصريون ليست طبيعية، كما أن الجهود الحكومية للتجميل ليست عادية. موني نصر (20 سنة) طالبة جامعية كانت ممن هرعوا إلى شارع محمد محمود في محاولة يائسة لحماية «غرافيتي» محمد محمود من الإزالة، لكن سبق سيف الحكومة وفرشاتها العذل. تقول: «ليس هناك في كل ركن من أركان القاهرة ما هو أكثر من تلال القمامة وجدران مشوهة وبقايا ملصقات انتخابية مهلهلة. لكن أحداً لم يبذل جهداً لإزالتها أو تخفيف حدة القبح الذي تطالع به عيوننا في كل ساعة. ويبدو أن رموز النظام الجديد يشعرون بتأنيب الضمير أو لوم النفس كلما مروا من هنا والتقت أعينهم بصور الشهداء الذين رووا بدمائهم طريق أولئك إلى الحكم، فقرروا إراحة ضمائرهم وتهدئة أنفسهم بطلاء الجدران». وطالما توافر الطلاء الأبيض الذي حول الجدران الشهيرة إلى ساحات ناصعة البياض، فإن هذا يعني توافر بقية الألوان لإعادة تلوين الجدران وضخ الحياة فيها. فما هي إلا ساعات قليلة حتى ظهر رسم لوجه أحدهم مخرجاً لسانه للجميع وكلمات «امسح كمان يا نظام جبان». وهرع آخرون إلى تقديم واجب المباركة والتهنئة على تبييض الجدران بكتابة عبارات مجاملة على غرار «مبروك البوية (الطلاء)» و «مبروك الحيطة الجديدة»، وهي المجاملات التي تحولت إلى ما يشبه العرف الثوري الشبابي طيلة الفترة الانتقالية التي شهدت محاولات حكومية عدة لتبييض الجدران الثورية باءت جميعها بالفشل. وتفتقت أذهان البعض عن عبارات تهنئة تواكب الحدث، فكتبوا «تعيشوا وتدهنوا» على غرار عبارة التعزية التي تقال في مناسبة إحياء ذكرى متوف «تعيشوا وتفتكروا». الغريب أن فكرة «الغرافيتي» في حد ذاتها تحولت قضية جدلية ونقطة خلاف وعراك بين محبي ومريدي وأنصار الرئيس محمد مرسي وجماعته «الإخوان المسلمين» من جهة، وبين محبي ومريدي وأنصار «الغرافيتي» من جهة أخرى، وكأن «الغرافيتي» أداة معارضة تم ابتكارها لمعارضة نظام «الإخوان» تحديداً. رسامو «الغرافيتي» ومحبوه ومريدوه ومناصروه اعتبروا الخطوة «التبييضية» دليلاً دامغاً على محاولة النظام الحالي كتابة كلمة «النهاية» أمام الفصل الثوري الذي أتى بهم، أو ربما كان وصولهم إلى الحكم عرضاً جانبياً عكسياً للثورة (على حد قول البعض)، وأنها كذلك استمرار للسياسة القمعية «العادلية» (من وزير الداخلية السابق حبيب العادلي) والتي تعتنق فكر إخراس الألسنة حماية للنظام. أما محبو ومريدو ومناصرو الرئيس والجماعة، فردوا بأقلام نارية على كل من تجرأ وانتقد إزالة «الغرافيتي» الأشهر في مصر. «هذه شخبطة من شوية عيال لا يجدون ما يرسمون عليه. لو كنا طبقنا حدود الله لما تجرأوا على ما يفعلونه»، «قلة أدب وشوية شباب لا يعرفون معنى المسؤولية ولا يجدون شغلة أو مشغلة. أتمنى أن تأخذوا معهم الإجراءات التأديبية اللازمة وتثقيفهم دينياً»، «الدكتور مرسي ربنا يحميه. هو يتقي الله فينا بالفعل لكن مازال هناك من يحاول عرقلة مسيرة تطبيق شرع ربنا». وبين محبي الجماعة ومريدي «الغرافيتي»، ضاع فريق ثالث وجد نفسه واقعاً بين شقي رحا. فهو إن دافع عن «غرافيتي» الثورة لأنه يؤرخ لثورة عظيمة، اتهمه محبو الجماعة بأنه فوضوي ويعارض الرئيس المنتخب، وإن دافع عن حق أصحاب الجدران في أن ينعموا بجدار خال من الرسوم، اتهمه محبو «الغرافيتي» بأنه انهزامي انكساري عدو للفن ومعاد للثورة. وفي الوقت الذي تنتعش فيه محاولات حكومية لتبييض جدران الثورة وأخرى «غرافيتية» لإبقائها ملونة، وانعكاسات هذه الصولات والجولات من مشاحنات لفظية وحروب عنكبوتية وسجالات سياسية، تصطدم عيون المصريين جيئة وذهاباً بجدار الشركة الذي تحول إلى «مبولة»، وواجهة مدرسة للفتيات تبرع طلاب مدرسة الفتيان المجاورة بتجميلها برسوم إباحية وعبارات يعاقب عليها القانون، ناهيك عن مدخل العمارة المموه تحت ملصقات الدروس الخصوصية التي تعلن عن «ملك الكيمياء» و «إمبراطور الفيزياء» و «سيبويه اللغة العربية» مع بعض الرومانسية من «أحمد» مر من هنا ليعبر عن عشقه لشيماء بحفر اسمها على باب البيت.