سنصدق أن النظام السوري علماني. وسنصدق أيضاً أن قيمه الأخلاقية تستند إلى مزيج مما رسخ فطرياً في سلوك العرب وما تركته الأديان السماوية التي آمن العرب بها، خصوصاً الإسلام، على ما كان يقول البعثيون الأوائل. وسنفترض أن مقولات أحد مؤسسي البعث، زكي الأرسوزي، في «الرحمانية» بصفتها الحالة الشعورية المميزة للعرب، راسخة في أذهان القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأن القيادة هذه تؤمن أيضاً بالدعوات إلى الحداثة التي جاء بها ميشال عفلق معه بعد دراسته في الخارج. وسنقول إن كل هذه القيم هي ما يحدد أخلاق القيادة السورية في صراعها الحالي مع معارضيها «الظلاميين التكفيريين» المتعاملين مع أميركا والغرب وإسرائيل لإسقاط خيار المقاومة والممانعة وإباحة المنطقة لمزيد من الهيمنة الصهيونية والغربية. وفوق ذلك كله، لم تجرِ تلك التجاوزات والمجازر والانتهاكات لحقوق وكرامات السوريين وغيرهم، إلا كطفرات براغماتية في سياق تحقيق الأهداف السامية في الدفاع عن سورية. يفترض أن يبرر ما سبق لجمع العلمانيين واليساريين والقوميين العرب، تأييدهم لحكم بشار الأسد. «فالإصلاحات الكلية» تمضي في طريق «لا عودة عنه» وفيه، على ما أفتى وزير الإعلام السوري المفوه. فالمشكلة ليست في عدد القتلى المدنيين الذين يزيد عددهم يومياً عن المئة وخمسين ضحية، كمعدل وسط، بل في معاندة الإرهابيين لنهج الإصلاح والتحديث واضطرار القوات العربية السورية إلى معالجة هذا الاستعصاء بما ملكت من وسائل. يعاكس هذا الكلام الحقيقة، معاكسة الصورة السالبة لأصلها. ومصادرة حكم عائلي افتعل صراعاً طائفياً، لمقولات العلمانية والحداثة والإصلاح، لا تنطلي إلا على من أرادها أن تنطلي عليه. ولا معنى لمواقف يساريي الأحزاب المتكلسة ومن يشبههم، إلا في رفضهم كل تغيير لا يرون فيه ما يحفظ لهم الفتات المرمي لهم من أنظمة الاستبداد والتسلط، وما يغطي ميولهم الطائفية المستترة. والمشكلة الأكبر مع من استورد قيم الحداثة بعد تمريرها في المصفاة الستالينية، إن المصفاة هذه باستنادها إلى فكرة التغيير الثوري الجذري، جردت الحداثة من كل اعتبار أخلاقي ونسبت كل الأخلاق السابقة للثورة إلى البرجوازية والدين والرجعية. فالأخلاق تنتمي إلى البنية الفوقية المناط بها الهيمنة على المجتمع. وعند حصول التغيير الجذري الثوري – لا غير – تنهار القيم السابقة لتنهض قيم المجتمع البديل. هكذا، قالت الكتب. ولعلها ليست مصادفة أن من يساند الثورات العربية، وخصوصاً ثورة الشعب السوري، من اليساريين، هو من أعاد النظر في أيديولوجيته وفي مسلماته النظرية ووقف موقفاً نقدياً قاسياً من التجربة السوفياتية وما انتهت إليه. خرج هؤلاء من مقولات تبرر الغاية فيها الوسيلة. ورفضوا ذبح الناس والتضحية بمصالحهم الملموسة ومعاناتهم اليومية كثمن مقبول لاستمرار سردية زائفة بل كاذبة عن مؤامرات كونية وتوازنات جيو-استراتيجية تهون في سبيلها حياة عشرات الآلاف. هنا، انقسم اليسار العربي انقساماً لا التئام بعده، بين مؤيد ل «النظام»، كل نظام وأي نظام، وبين مدافع عن المجتمع، بكل تجلياته ومعانيه. بهذا المعنى، تعيد الثورة السورية، أكثر من الثورات العربية مجتمعة ربما، الاعتبار إلى الوحدة الاجتماعية الأصغر، الإنسان، الذي لا يستقيم أي نظام ولا تنهض أي مصلحة تتناقض مع حقوقه البديهية وكرامته وحريته. لقد طرح الشعب السوري الأسئلة الأصعب، ليس فقط على نظامه العدمي المهزوم في الصميم، حتى قبل أن ينتزع ذلك الضابط أظافر أطفال درعا، بل على مجمل الاجتماع والثقافة والسياسة في العالم العربي: أن تكون إنساناً أو لا تكون.