طرح صديق قبل أيام سؤالاً وجيهاً: «لماذا ابتهج العلمانيون والليبراليون واليساريون بدور «لاهوت التحرير» في التصدي للأنظمة الديكتاتورية في أميركا الجنوبية، بينما يشجبون ويدينون أي إشارة دينية إسلامية تصدر عن الشبان المشاركين في ثورات الربيع العربي، وخصوصا الثورة السورية؟». المتوازيات كثيرة بين الظروف التي شهدت ظهور «لاهوت التحرير» وبين تلك التي أدت إلى ارتفاع الخطاب الديني – الاحتجاجي في البلاد العربية التي تعيش ثوراتها. الظلم المدمر للمجتمعات من قبل «نخب» عسكرية - طفيلية. ولاء المؤسسة الدينية الرسمية للأنظمة الحاكمة وتغطيتها أبشع ممارساتها. التوق العام إلى خلاص دنيوي لا يتناقض مع الموروث الثقافي والقيمي. اليأس الشعبي من المعارضات التقليدية المفلسة والمرتهنة. جاء «لاهوت التحرير» ليقدم خطاب العدالة المنطوي عليه الكتاب المقدس (الأناجيل خصوصا)، مشددا على التلازم بين «العقيدة القويمة» وبين «الممارسة القويمة» حيث لا معنى، في نظر اباء «لاهوت التحرير»، لنظرية دينية سليمة تروج لها الكنيسة الكاثوليكية الرسمية، إذا لم تترافق مع نقد عملي «للخطيئة» التي يتردى فيها الحكام الديكتاتوريون. فتحت وجهات النظر هذه الباب لهجوم شرس شنه الفاتيكان على «لاهوت التحرير» واتهم الداعين اليه بمحاولة المزاوجة بين الماركسية والمسيحية. وانتهى الهجوم بتطويق اللاهوتيين المعارضين، لكن بعد أن فعلوا فعلهم وساهموا مساهمة كبيرة في التغيير الجذري للمناخ السياسي في القارة الاميركية اللاتينية. لم تكتمل في العالم العربي تباشير «الإصلاح الديني» واقتصرت على كتابات لعل أهمها ما سطره الإمام محمد عبده وجمال الدين الافغاني وعبد الله العلايلي. في المقابل، ظهر ميل الى اعتبار الاصلاح المنشود قد تم فعلا وتمثل في حركات الاسلام السياسي مثل «الأخوان المسلمين» والسلفية - الجهادية، التي تزود بمجملها عموم المعترضين على الأنظمة القائمة بأدوات نظرية وعملية لنقل رفضهم الواقع، الى ساحة الفعل ونشر افكارهم بين جمهور ينتشر الاسلام فيه على نحو مشابه لانتشار الكاثوليكية في صفوف الاميركيين الجنوبيين. وفي حين أخفقت محاولات المصالحة بين الفكر الاسلامي التقليدي والفكر اليساري، وذاك المنتمي الى الحداثة عموما، بدا ان الإسلام بصيغه الجهادية والحركية، قادر على تزويد الشبان العرب بما يلزم من خلفيات تطالب بالحرية والعدالة، طالما ان المضمون الطبقي - الاجتماعي لا يشكل الأولوية القصوى في الثورات الدائرة اليوم، وإن مثّل احد روافدها. كما يعفي الشعار الاسلامي السياسي من حرج العداء لنظام ملأ الدنيا صخبا عن عدائه لإسرائيل واحتلالها الاراضي العربية. لكن الحديث يدور هنا عن إسلام سني خارج المؤسسة الرسمية. وعن واقع شديد التعقيد لا يحول دون تسرب الكراهية الطائفية الى الخطاب الديني المنادي بالعدالة. وعن تفاقم التمسك بالهويات الطائفية والجهوية في مجتمعات لم تنجز صوغ حداثتها. وعن وجود راسخ للطوائف الأخرى. وعن التباس معاني الوطن والأمة والدولة والعائلة. ويعيد هذا الواقع الى الذاكرة تلك المقولات الساذجة عن أن «مصر غير وتونس» و»ليبيا غير مصر»... إلى آخر السلسلة التي حاول اصحابها إخراج انفسهم وانظمتهم من أطر الاجتماع والتاريخ. ويصح القول هنا ببداهة، ان «لاهوت التحرير» غير الاسلام السياسي، بقدر ما أميركا اللاتينية «غير» العالم العربي. عليه، تعطي الحالة السورية العينة الأصعب لحقيقة تداخل «النخبة» المتسلطة بأقلية طائفية واسراف النظام باستغلال هواجس الاقليات في التهويل من مستقبل تحكمه أكثرية يؤخذ عليها رفضها تبني علمانية، غير محددة الملامح باستثناء تسليمها السلطة لأجهزة امنية يهيمن عليها ابناء الاقليات.