يفترض أن تكون ساعة الذروة المرورية. إنه مساء الخميس. والخميس في القاهرة يعني ازدحاماً مرورياً يصل حد الاختناق، ونزوحاً جماهيرياً كاسحاً صوب المراكز التجارية، إما للتسوق أو للتسكع، وهروباً ذكورياً صوب المقاهي بحثاً عن كوب شاي في الخمسينة و «عشرتين» طاولة، إضافة إلى غزو شبابي مبين للكوفي شوب والنوادي والنواصي، كل بحسب ميوله. لكن التاريخ الحديث سيضع خطاً، وربما خطين، أسفل ليل قاهرة الخميس 10 أيار (مايو) 2012، إذ خفت حدة الاختناق المروري لدرجة مريبة، وصفّ سائقو الأجرة سياراتهم أمام المقاهي، وبذلت الأمهات جهوداً عاتية لإجبار الصغار على النوم مبكراً، وحانت اللحظة الحاسمة، وتعلقت أنظار الجميع بما أتيح لها من شاشات تلفزيونية. الإنجاز الأكبر ل «ثورة 25 يناير» بعد إسقاط الرئيس المخلوع حسني مبارك أوشك على التبلور. اجتمع عدد من ملوك ال «توك شو» في القنوات الخاصة، وبدا التوتر الإيجابي على الجميع. خلفية تاريخية عن المناظرات السياسية والرئاسية، أشهر المناظرات في الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، إشارات متكررة لفضل الثورة وشهدائها ومصابيها وأنه لولاهم لما عاش المصريون ليشهدوا «مناظرة مرشحي الرئاسة». «مناظرة مرشحي الرئاسة» في حد ذاتها عبارة تنتمي إلى مدرسة الفانتازيا، فحتى 14 شهراً مضت لم يكن لمصري يردد عبارة كهذه إلا أن يواجه أحد مصيرين: وصمة الجنون أو تهمة تؤدي إلى أحد معتقلي وادي النطرون أو طرة. المؤكد أن أجواء طرة حيث يقبع نجلا الرئيس السابق وعدد من رموز حكمه، لم تكن عادية ليل أول من أمس، وشأنها في ذلك شأن أجواء «المركز الطبي العالمي» حيث يرقد مبارك الذي إن كان شاهد المناظرة التاريخية، فإنه حتماً أيقن أن مصر تتغير. فحين يقف مرشحان من بين 13 مرشحاً ليردا على الأسئلة الأكثر مراودة للناخبين، بغرض كشف الستار عن منهجيهما، إضافة طبعاً إلى محاولات حثيثة لإحراجهما، وفتح نافذة يتمعن عبرها ملايين المشاهدين في ملامح كل منهما، وحركاته وقفشاته وسقطاته وهفواته، فإن ذلك يعني حقاً أن مصر تتغير. والتغيير سنة الحياة وأحياناً نقمتها وأحياناً أخرى فضيحتها. التغريدة الأكثر انتشاراً على «تويتر» عكست الأخيرة. أحدهم لخص محاولات «الضرب تحت الحزام» من قبل المرشحين المتصارعين: «هاتقولهم لي حسني حسني، هاقولهم لك إخوان إخوان»، فموسى المصنف «فلولاً» من قبل قوى ثورية رافضة لترشحه يرد على تلميحات أبو الفتوح الموصوف ليبرالياً بأنه «ليبرالي نهاراً مائل للجماعة ليلاً» بمبادلة التلميح له بالإشارة إلى انتماء منافسه السابق ل «الإخوان»، اتباعاً للمثل الشعبي الرائع: «لا تعايرني ولا أعايرك، الهم طايلني وطايلك». وطاول كلاهما كذلك في المناظرة التاريخية همان متناقضان: الأول استقطاب أنصار الآخر من بوابة «داوها بالتي كانت هي الداء»، والثاني كيل التهم للآخر في محاولة لإحراز نقاط في كل جولة. جولة شكل الدولة المرتقبة تعادل فيها الطرفان، فكلاهما أراد دولة ديموقراطية ومواطنين يتمتعون بكرامة ومستوى حياة لائق. وأحرز موسى نقطة على حساب خصمه حين حان وقت التطرق إلى الشريعة والمادة الثانية من الدستور وحرية المعتقد الديني، إذ ظهر وجه أبو الفتوح «المائل إلى الجماعة» في إجاباته، إلا أن أبو الفتوح استعاد عدداً من النقاط بتقمصه الدور الذي يراهن عليه موسى، وهو دور رجل الدولة القوي. ففي وقت وصف موسى «أحداث العباسية» الأخيرة بأنها «لم يكن لها مبرر»، وأن «هدفها كان الفوضى»، أكد أبو الفتوح أن الأحداث وقعت «نتيجة سوء أداء من أطراف مختلفة»، وأنها «لم تكن لتقع لو كنت رئيساً للجمهورية». لكن بطاقة «رجل الدولة القوي» سرعان ما استعادها موسى بنبرة استعلائية غارقة في الكبرياء لدرجة سلبت أبو الفتوح ميزة معارضة النظام، معتبراً معارضته جزءاً من معارضة جماعة «الإخوان المسلمين» ككل، وليست معارضة أشخاص. وحاول موسى أن يوجه لخصمه لكمة قوية علها تسقطه أرضاً بقوله: «وسمحنا لك بالمشاركة في الجامعة العربية، وأنا كنت أميناً عاماً لها، ولم أر لك معارضة في حضور المؤتمرات الإنسانية أو المؤتمرات الخاصة بالإغاثة». ومضى قدماً، ناسباً إلى نفسه شرف المعارضة السياسية، قائلاً: «أنا اختلفت مع النظام في أكثر من نقطة، لذلك خرجت من الخارجية، ولم أكن أريد البقاء. وهذه هي الخلافات السياسية والصدام والموقف»، قبل أن يقول عن نفسه في سؤال آخر: «نحن الثورة والثوار...». السمة الغالبة للمناظرة كانت التحضر والهدوء، وإن بدت آثار التوتر حيناً والغضب أحياناً على المتنافسين. فعلى رغم أن أبو الفتوح اتهم نظام مبارك بأنه يقف وراء إصابته بأمراض الضغط والسكر، إلا أنه استمر على نهجه السابق في انتقاد منافسه المتقدم عنه في السن، وهو الانتقاد الذي فضل موسى تجاهله لفظاً وإن أثر على ملامح وجهه سلباً. وسجل أبو الفتوح نقطة حين أبرز إقرار ذمته المالية وتقريراً عن وضعه الصحي «لأن من حق الشعب أن يعرف»، فيما قال موسى إنه سيفعل ذلك «بعد انتخابي». جولات المناظرة لم تنته بضربة قاضية، أو باستسلام منافس، بل انتهت نهايات عدة، فبين قائل بأن نتيجة المناظرة تصب في مصلحة المرشح حمدين صباحي الذي لم يكن مشاركاً، وآخر معلناً «حط الشمس (رمز عمرو موسى الانتخابي) على الميزان (رمز مرشح الإخوان محمد مرسي)، الحصان (رمز أبو الفتوح) هو الكسبان»، وآخر مداعباً بأن «الميزة الوحيدة للمناظرة هي أن الشعب عرف عنوان موسى، وبالتالي سيسهل عليه إسقاطه من بيتهم». من كان مؤيداً لموسى زاد تأييده، ومن عقد العزم على إعطاء صوته لأبو الفتوح قوي عزمه، ومن كان حائراً بينهما إما مال نحو أحدهما، أو قرر الانصراف عن كليهما متجهاً نحو اختيار ثالث. لكن الجديد في المناظرة التاريخية أن «الطرف الثالث» الذي صار جزءاً لا يتجزأ من حياة المصريين على مدى الأشهر ال14 الماضية عاود الظهور، لكنه ظهور افتراضي. الشبكة العنكبوتية أوشكت على الانفجار لفرط تواتر التغريدات والتعليقات والتحميلات والمشاحنات الخاصة بالمناظرة التاريخية. وكالعادة، استحوذت الكوميديا على نصيب الأسد، وإن كان استحواذاً لم يخل من سياسة، إذ عكست روح الدعابة والسخرية انتماءات شتى. أحدهم كتب ساخراً رؤيته لجانب من المناظرة: «أبو الفتوح: أنت جزء من النظام السابق. موسى: لم أكن وكنت مناضلاً. أبو الفتوح: طيب أنت صدرت الغاز لإسرائيل. موسى: لم أصدره وكنت رافضاً. أبو الفتوح: أنت ناقص تقول إنت إللي عملت الثورة. موسى: فعلاً. إحنا كثوار قلنا لا، أنت قلت نعم لتعديل الدستور». وفي السياق نفسه، رأى أحدهم أن موسى أفرط في التنويه إلى ثوريته ومعارضته للنظام السابق فكتب: «لا ينقص موسى الآن إلا أن يعلن أنه عضو في جماعة 6 أبريل وأنه أدمن (مدير) صفحة كلنا خالد سعيد وشهيد سابق في موقعة الجمل». جمال أجواء المناظرة لم يفسده سوى هجمة الإعلانات الشرسة على فواصل المناظرة لدرجة أدت إلى اختلاط الأمور لدى المشاهدين، فهناك من شكا من طول فترة المناظرة التي تتخلل الإعلانات، وهناك من خرج بعد المناظرة بقرار تحوله من التهام أكياس البطاطا المضلعة إلى الرقائق المستطيلة اللتين داهمتا الفواصل الإعلانية الكثيرة والطويلة جداً. النتيجة الأكبر من مناظرة ليل أول من أمس هي أنها أضفت هدوءاً طال انتظاره وسكينة خرجت ولم تعد لدى ملايين المصريين ممن أصابتهم فوضى المرحلة الانتقالية ببوادر ضغط وملامح سكر كتلك التي أصابت الدكتور أبو الفتوح بسبب مبارك. ويبدو أن الهتاف الجديد الذي سيخرج به الصامتون المعروفون ثورياً ب «حزب الكنبة» هو: «الشعب يريد عودة الأمن والمناظرات».