تتقاطع عند سمير جعجع خطوط كثيرة تجعل منه هدفاً للاغتيال من جانب أطراف عدة، داخلية وخارجية. لكن في معزل عن متابعة الخيوط هذه، تتعين الإشارة إلى خلفية الصورة التي يوضع رئيس حزب «القوات اللبنانية» في إطارها منذ نهاية الحرب الأهلية. فعلى رغم أن الرجل أيّد اتفاق الطائف والتزم به مثله مثل باقي قادة الميليشيات المتناحرة، إلا انه ظل وحيداً في تلقي اتهامات التعامل مع إسرائيل. وتناست الجماعات اللبنانية ايلي حبيقة وغيره ممن كان رمزاً لاستقدام الاحتلال الاسرائيلي وانتقل الى خندق الممانعة، وظل جعجع «الخروف الأسود» للمصالحة اللبنانية. انتهت الحروب الأهلية على كل الجبهات، إلا على جبهة جعجع التي شهدت حلّ حزبه وإلقاءه في السجن لأحد عشر عاماً. ليس في الأمر أي محاولة لتبرئة جعجع. فهو واللبنانيون يعون تمام الوعي وقائع أعوام الحرب. لكن الحقيقة تقتضي القول ان جعجع لم يكن وحيداً فيها. وخصومه/شركاؤه في المقلب الآخر من خط الانقسام الوطني، بل رفاقه في الخندق ذاته، والذين لا تقل الدماء التي سفكوها عن تلك التي تلوث يدي جعجع، تسنّموا مراكز السلطة وما زالوا يقبضون على زمامها إلى اليوم. من «أبطال» مجازر صبرا وشاتيلا إلى حرب الجبل ومذابحها إلى حرب المخيمات والفظائع التي ألمّت بالفلسطينيين. كل ذلك مغفور، بفعل اتفاق الطائف وقانون العفو الأرعن الذي تبعه. لكن ما لا يمكن غفرانه - وفق «عقل» الجماعات اللبنانية - هو ان يكون جعجع قتل مسيحيين، ربما أكثر مما قتل من المسلمين والفلسطينيين، فاستحق لعنة قومه وعشيرته على نحو لم تلعن الطوائف الأخرى «قادتها»، أولاً، ولأنه أصر على الاحتفاظ بحيثية مستقلة عن اجواء الانخراط التام في المشروع السوري للبنان، ثانياً، على غرار ما فعل رفيقه ثم عدوه ايلي حبيقة، او في مندرجات «التفاهم» مع وكلاء سورية في لبنان، على نسق ميشال عون، عدو جعجع الدائم. صحيح أن رئيس «القوات اللبنانية» صَدَم المسيحيين بعمق بتحديه قدس أقداسهم، أي الدولة اللبنانية التي كانوا يضعون أنفسهم موضع الأم والأب لها، وصحيح انه أوغل في دماء المسيحيين وغيرهم من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، لكن الصحيح أيضاً، مهما بدا ذلك متناقضاً، أنه لم ينتقل من معسكر العداء لدولة الهيمنة المارونية الى معسكر تسليم الدولة بما فيها إلى هيمنة قوى ما بعد الطائف، السورية واللبنانية، مقابل حصة في الدولة وأسلابها، على ما فعل ويفعل خصومه وحلفاؤه منذ بداية التسعينات الى اليوم. بكلمات أخرى، إن جعجع هو القيادي المسيحي الوحيد الذي انتقل من العداء العميق لدولة البورجوازية المارونية الى الانضواء الجدي في مسار اتفاق الطائف، ما يهدد بحرمان قوى «الممانعة والمقاومة» في لبنان وسورية من الغطاء المسيحي الشديد الأهمية والذي قدمه ميشال عون. تلك القوى المناهضة ضمناً لجوهر الطائف والعاملة على توظيفه واستغلاله، على ما فعل حافظ الأسد في التسعينات ثم الى الاطاحة به وإبطاله على ما تدل المحاولات منذ اغتيال رفيق الحريري والتي اتخذت شكل نص مكتوب في اتفاق الدوحة عام 2008. وبعد ظهور ملامح التغيير في سورية، بداية بتكريس استحالة بقاء النظام على ما هو عليه، مع ما سيجلبه ذلك من انعكاسات على لبنان، بدا جعجع هدفاً أول لعملية وقف عقارب الساعة ودفع لبنان الى موجة عاتية من الفوضى والعنف والتخبط. بل إن محاولة الاغتيال تقع في صميم السعي الى تكريس سردية مجتزأة ومزيفة لتاريخ لبنان الحديث ولحروبه وجماعاته. السؤال هنا: ألم يحن الوقت لينظر اللبنانيون في أعين بعضهم ليعترفوا بمرارة الحقائق، بدل التحديق في مناظير القناصة؟