الإصلاح المدني المتعلق بشؤون السياسة ومصالح المعاش الإنساني، تداولته الحضارات كإرثٍ من التجارب التي تناقلتها الأجيال الإنسانية بعد أطوار من النجاح. لذا، يصعب نسبة طرق السياسة والحكم على ثقافة معينة بأنها صاحبة الامتياز المطلق في إنتاج إحدى نظريات السياسة الإنسانية والطرق الحكمية، فالتداخل بين الإرث الإغريقي والفارسي ألهم عدداً من منظري السياسة الشرعية بالاقتباس والمحاكاة، مع التهذيب والزيادة والتجديد كالماوردي والقاضي أبي يعلى في كتابيهما (الأحكام السلطانية)، وهذا ليس عيباً علمياً بمقدار ما هو حسن توظيف للخبرات البشرية. ومن أهم المشاريع السياسية ذات البعد الاجتماعي والتاريخي، والتي امتازت بالتفرد إلى حدٍ بعيد؛ ما قام به أبو زيد عبدالرحمن بن محمد بن خلدون المتوفى سنة 808 ه، في تأسيس منهج جديد لعلم السياسة في مقدمة مؤلفه التاريخي المشهور «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». ولم يكن لهذا العلم الجديد مزيد بحث وتصنيف أو شرح وتعريف ممن جاء قبله أو بعده من علماء المسلمين، حتى بعض تلامذته (كالمقريزي) أو من جاء بعده بقليل (كابن الأزرق) عرفوا أهمية فكر ابن خلدون التاريخي والسياسي، غير أنهم لم يضيفوا شيئاً يذكر إلى ما اكتشفه شيخهم من علم، والمدخل المتميز الذي طرقه ابن خلدون في مؤلفه، قد عالج فيه أسباب نشوء الدول والحضارات وسقوطها، وسلوك المجتمعات ومعايير القوة والضعف. لذا، كان إضافة نوعية ليس في علم التاريخ فحسب بل والسياسة والاجتماع، وهو ما اصطلح على تسمية مراده بعلم «العمران البشري»، فقد قال عنه ابن خلدون إنه «ذو موضوع هو العمران البشري والاجتماع الإنساني، وذو مسائل وهي بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعياً كان أم عقلياً «[المقدمة لابن خلدون، 1/ 33]. وقد قام ابن خلدون بتحرير الأساسات المنطقية لهذا المكتشف، مبيناً الأسس والأركان للعلوم البرهانية وهي: الموضوع والأعراض الذاتية والمسائل والمقدمات في فصول مقدمته المبتكرة، حيث يرى ابن خلدون «أنه شرح فيه من أحوال العمران والتمدّن، وما يعرض في الاجتماع الإنساني من الأعراض الذاتية، وما يمتّعك بعلل الكوائن وأسبابها، ويعرّفك كيف دخل أهل الدول من أبوابها». [المرجع السابق، 1/ 70]. ثم قال في بيان غايته: «وهو علم يحوّل غاية المؤرخ من سرد الأخبار وتصيّد الغرائب إلى السعي إلى فهم الاجتماع الإنساني، الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال». [المرجع السابق ، 1/ 32]. وهذا المنهج من النظر في تحليل واقع المجتمعات، ودراسة أسباب التغير والتبدل في أحوال الفرد والجماعة، يعدّ من أعظم مصادر العمل الإصلاحي لأي مجتمع يُراد تغيير ظروفه وعلاج أزماته، ولعل عُزلة ابن خلدون في قلعة ابن سلامة في الجزائر بعد نكباتٍ متعددة شهدها في الأندلس والمغرب العربي قادته لتلمس المخارج ومراجعة طبائع العمران وتأثيرها في بني الإنسان. مقاصد الإصلاح المدني ولن يكفي المقام بعرض كل المشروع الخلدوني، ولكن الهدف بيان مقاصد الإصلاح المدني الذي سعى فيه ابن خلدون كغايات ضرورية لصلاح المجتمعات وسداد الدول بتحصينها من أسباب الضعف والاندثار. ولعلّي أشير إلى أهم هذه المقاصد في النقاط الآتية: أولا: إن ابن خلدون لم يُعنَ في كتابة المقاصد تنظيراً، بل قدّم مشاريع عملية تنزيلية للمقاصد، طارحاً شواهد المقاصد العبادية إلى شهود المقاصد العمرانية على الدول والمجتمعات، وهذا العمل العلمي فيه جمع بين قوة المأخذ من النصوص والأحداث وحسن التعقيل لها والتنزيل السنني لمفهومها، ويوضّح محقق المقدمة عبدالواحد وافي المنهج الخلدوني في النظر التاريخي بقوله: «تتمثل أولاهما في ملاحظات حسية وتاريخية لظواهر الاجتماع، أو بعبارة أخرى تتمثل في جمع المواد الأولية لموضوع بحثه من المشاهدات ومن بطون التاريخ. وتتمثل الأخرى في عمليات عقلية يجريها على هذه المواد الأولية ويصل بفضلها إلى الغرض الذي قصد إليه من هذا العلم وهو الكشف عما يحكم الظواهر الاجتماعية من قوانين». فعمل ابن خلدون في تطبيقه للمنهج المقاصدي في نظريته العمرانية لم يكن إلا اجتهاداً تأويلياً تعليلياً جزئياً أمام الدفعة الحضارية القرآنية للعقل المسلم كي يتدبر ويتبصر ويتفكر وينظر في السنن الكونية التي جعلها الله تعالى عللاً تنشأ عنها الظواهر، بحيث تتشكل لديه قوة الملاحظة للعلاقات الرابطة بين الظواهر الطبيعية ومكوناتها الداخلية ليستخلص أن لكل ظاهرة علة تدور معها وجوداً وعدماً، طرداً وعكساً، اتفاقاً واختلافاً، وأن أساس البحث في هذه العلة هو الاستقراء الكلي أو الأغلبي أو الجزئي بمقصد إرادة البناء الحضاري الاستخلافي، ما يقتضي يقظة اجتهادية تجديدية متطورة للعقل المسلم مسايرةً لما يختزنه الوحي من عطاءات معرفية لا تنقضي حتى يرتفع لإنسان إلى أحسن تقويم في فعله الحضاري. [انظر: التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني للعضراوي ، إسلامية المعرفة العدد 50]. ثانياً: أهم المقاصد التي تظهر في المقدمة وتتأكد في أماكن كثيرة ؛ هي ضرورة العدل وصيرورة الظلم للهلاك والاندثار، ومن مؤكداته قوله: «فصل في أن الظلم مؤذن بخراب العمران» ويشرح هذا المقصد بكونه هو «الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في كل مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً، وأدلته من القرآن والسنّة كثيرة، أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر». [مقدمة ابن خلدون 1/ 155]. وجماع الظلم عند ابن خلدون الذي به تنهار الدول هو الاستبداد والإسراف، أي تغول الظلم على الأبدان والعقول والأعراض، و طمع الظالم بالاستيلاء على المناصب والأموال. ثالثاً: يقرر ابن خلدون بعبارات مختلفة ضرورة العصبية وقوة القانون في الدولة والمجتمع، إذ هو أساس بقائها ومصدر هيبتها، وأبلغ موضع قرر فيه ضرورة القانون والملك بالعصبية في قوله: «العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع عليه، وقدمنا أن الآدميين بالطبيعة الإنسانية يحتاجون في كل اجتماع إلى وازع وحاكم يزع بعضهم عن بعض، فلا بد أن يكون متغلباً عليهم بتلك العصبية، وإلا لم تتم قدرته على ذلك. وهذا التغلب هو الملك وهو أمر زائد على الرئاسة، لأن الرئاسة إنما هي سؤدد وصاحبها متبوع، وليس له عليهم قهر في أحكامه، وأما الملك فهو التغلب والحكم بالقهر. وصاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها، فإذا بلغ رتبة السؤدد والاتباع ووجد السبيل إلى التغلب والقهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس. ولا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً» [المرجع السابق 1/ 68]. فمع تقريره لضرورة العصبية يوحي بأهمية الملك المتغلب، والعصبية كما أنها قوة عددية مهيبة قد تكون نظاماً يلزم بالاتباع ولا ينخرم بمجاوزة الأتباع، وتفصيله في أحوال الصناعة وضبط الأسواق وإحكام الجند ومنع الظلم يوحي بتقنين قوي لا يلين عند التطبيق. المقصد الأخلاقي رابعاً: المقصد الأخلاقي في التعامل مع الغير وإقامة المصالح للكافة، ولا يكون تحقق ذلك إلا بإعمال النظر الشرعي بأحوال الآخرة، وحمل الناس على أحوال الآخرة، تخويفاً من المعاصي وتهذيباً لطباع التمرد والتوحش، لهذا قال ابن خلدون: «وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط... ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم... وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به» [المرجع السابق 1/ 97]، فالطبيعة الدينية التي أرادها ابن خلدون في المُلك تجعله عاملاً بمقاصد الآخرة مع مقاصد الدنيا التي لا ينظر المُلك إلا فيها، فتحقق الجمع بين مقاصد الدنيا والآخرة مرده تهذيب الطباع وضبط الملك ألا يتجاوز الشرع في عمله، وقد فصّل هذا المعنى في أكثر من موضع، بتقريره أن السياسة إذا حادت عن الأخلاق وانغمس كل من المجتمع والدولة في ارتكاب المذمومات وانتحال الرذائل وسلوك طرقها «تفقد السياسة منهم جملة ولا تزال في انتقاص إلى أن يخرج الملك من أيديهم» [المرجع السابق 1/ 71]. لذا، يرى أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة إلى قوة العصبية، والمراوغة في التدين تبريراً لأهواء الخاصة واستحواذاً على المنافع دون الآخرين سبباً في الاختلال بضياع القيم والأخلاق وانفصالها عن الملك وبالتالي الانهيار، وأورد في ذلك شواهد متعددة من التاريخ [انظر: المرجع السابق 1/ 78]. هذه بعض المقاصد وليست كلها، ويبقى هذا الموضوع واسعاً ومتشعباً لأن قراءة مقدمة ابن خلدون ثرية ومليئة بالكنوز المعرفية التي تلهم المصلحين عبر التاريخ وعياً سننياً ومقاصدياً ونهضوياً، لا يستغني عنها باحث أو مسؤول يبتغي الخير لمجتمعه، وهذا التناول السابق هو غيض من فيض، لا يليق بمقام الموضوع وأهميته، ولكن حسبي التنبيه وفتح الأفق لمتلمس الزيادة لخوض غمار هذا المعين من المعارف والخبرة التاريخية، كما أن هناك من استزاد في طرق هذا الموضوع مثل الدكتور إدريس حمادي في كتابه «المصالح المرسلة وبناء المجتمع الإنساني، الشاطبي وابن خلدون، نموذجين»، مطبعة المعارف الجديدة بالرباط، عام 2009م]، وكذلك بحث الدكتور عبدالرحمن العضراوي، «التطبيق المقاصدي في المنهج الخلدوني» [المنشور في مجلة إسلامية المعرفة العدد (50) عام 2006م].