وظيفة القضاء بين الناس أو النظر في مظالمهم من أعظم الرتب في إقامة الدين، ومن أخطر الولايات في سياسة الدنيا بالدين. فالقضاء توقيع عن رب العالمين، وصلاح للخلق على هدي سيد المرسلين، والقضاة ملاذ المظلومين وأمن الخائفين، ولا سعادة وطمأنينة في الأرض إلا بالعدل في الحكم والقضاء، وبهذا الناموس العظيم قامت السموات والأرض. وخطة القضاء مبنية على تحقيق مقاصده وتحري أهدافه العليا، وجُعِل للقاضي أمر تدبير الطرق الموصلة للعدل وترتيب العمل بالحق، ولأجل أن المقاصد هي الحاكمة على سياسة القضاء كان العمل بها والرجوع إليها مظنّة التطوير، وحمايةً من الانحراف عند تزاحم العمل وتغاير الظروف وتكالب التحديات والمستجدات. فمقاصد الشريعة في اصطلاح الأصوليين هي «المعاني والأهداف الملحوظة للشرع في جميع أحكامه أو معظمها وهي الغاية التي من أجلها وضعت أحكام الشرع». وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك «أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً» (الموافقات 2/9). إما بجلب النفع لهم أو لدفع الضرر والفساد عنهم، كما دل عليه استقراء الشريعة في جميع تصرفاتها بما يثبت أنها وضعت لمصالح العباد، كقوله تعالى: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ» (النساء 165) وكقوله تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ» (الأنبياء 107). فإذا كانت مقاصد الشريعة بهذا الشمول والعموم من الهيمنة المصلحية على أحكام الشريعة وارتباط التشريع بها في كل جزيئاته. كانت معرفتها بالتالي أمراً ضرورياً على الدوام ولكل الناس. فالعامي يلحظ بها حكمة التشريع وأسرار الأمر والنهي ما يزيده يقيناً وإيماناً وعلماً وعملاً. والفقيه يراعي مقاصد الشرع عند الاستنباط وفهم النصوص والنظر في أحكام الشرع؛ فإذا أراد معرفة حكم واقعة من الوقائع احتاج إلى فهم النصوص لتطبيقها على الوقائع وإذا أراد التوفيق بين الأدلة المتعارضة استعان بمقصد التشريع. وإن دعته الحاجة إلى بيان حكم الله في نازلة مستجدة من طريق القياس أو الاستحسان وغيرها تحرّى بكل دقة أهداف الشريعة ومقاصدها. وهكذا، لا تنقضي الفوائد والأسرار التي يجنيها الفقيه والمجتهد من مراعاته مقاصدَ الشريعة عند بحثه ونظره في الأحكام. ضعف العمل القضائي وبعد هذه المقدمة في أهمية المقاصد ودراستها، كان من الضروري أن نسترشد بهذه المقاصد عند ضعف العمل القضائي أو انصراف الناس عنه أو تحول دوره العدلي إلى تسويغٍ للعاعة دنيوية، أو تبريرٍ لظلم وفساد، وبالتالي يصبح هذا المعقل والملاذ الأخير لنصرة الحق وإقامة العدل مأوى الظلمة ومخبأ المفسدين. لذا، كانت الحاجة عظيمة أن ترفع راية المقاصد التي من أجلها قام نظام القضاء واستقل عن السلطة وتحصن به القضاة، ليكونوا فوق كل شبهة وشهوة تؤثر في أداء العدالة ونشر الحقوق، ولعلي أذكر أهم هذه المقاصد التي تصلح هذه الولاية وترشّد العمل بها، من خلال الملامح الآتية: أولاً: العدل والعلم أعظم مقاصد القضاء. يقول ابن تيمية: «المقصود في ولاية القضاء تحري العدل بحسب الإمكان وهو مقصود العلماء» وقال: «ولما كان العدل لا بد أن يتقدمه علم؛ إذ من لا يعلم لا يدري ما العدل والإنسان ظالم جاهل إلا من تاب عليه فصار عالماً عادلاً» (فتاوى ابن تيمية 18/169) . ووسائل تحقيق العدل وبلوغ العلم في القضاء المعاصر قد تغير عما كان عليه سلف الأمة، وذلك أن واقع الناس قديماً كان محفوظاً بالشرع وواعزهم القلبي مملوءً بالإيمان، كما أن القضاة أغلبهم من العلماء المجتهدين أو المتأهلين، فوسائل تقرير العدل قد اجتمعت في ذات العالم ولم يحتج إلا وسائل تحرٍ بالغة في الحِجاج والدلائل، أما اليوم فإن واقع الحياة المعاصرة قد تشابك وتعقد وانفتحت على المجتمعات صنوف الأنظمة والسلع والعادات والأفكار بسبب وسائل الاتصال والتواصل بين الشعوب والأفراد، كما أن القاضي لم يحصل على التأهيل الفقهي اللازم لتغطية ذاك الاحتياج المستمر والمتغير، من أجل ذلك كانت الأهمية كبيرة لإيجاد آليات عملٍ جديدة تساهم في تحقيق مقصد العلم والعدل: مثل؛ ضبط الأحكام القضائية المتداولة والمتقاربة والتباين فيها مفسدة؛ بمواد قانونية محددة، مثل أحوال الأسرة في الطلاق والنفقة والحضانة وغيرها، وبعض الدعاوى المالية في العقارات والتجارات الخارجية والتوثيقات العقدية، كما أن رسم منهجية واضحة في مجال الاجتهادات القضائية بات ضرورياً في ظروفنا المعاصرة، كأن تُحرّر منهجية التكييف الفقهي للوقائع القضائية ويدرّب عليها القاضي ويُكسب الملَكَة اللازمة لها، وتوضّح منهجية العمل فيما يشدّد فيه كصيانة الأعراض والأموال، وما ييسر فيه الحكم كقضايا الحدود والمخالفات الشخصية القائمة على الستر في أعراف الناس، كذلك لا تغفل أهمية الشفافية والوضوح في العمل القضائي وإبراز الأحكام النافعة للناس دون ما فيه ضرر أو فضيحة، وتعليم الناس حقوقهم وآليات المطالبة بها أو المدافعة عنها، سواء كانوا رجالاً أو نساء أو وافدين، بكل ما يسهّل الوصول للمحكمة، خصوصاً إذا اعتمدنا أنظمة تقنية حديثة تختصر الوقت وتيسر المعاملة وتخفف تراكمات الناس على مكتب القضاء. ثانياً: القوة والأمانة من مقاصد تولي القضاء، فالفقهاء قد اشترطوا لمن يتولى القضاء شروطاً عدة كأن يكون بالغاً عاقلاً مسلماً حراً عدلاً فقيهاً ورعاً. ولو اعتبرنا النظر المقاصدي في تلك الشروط لوجدنا أن ولاية القضاء لا تقوم إلا بالقوة والأمانة في شخص القاضي، كسائر الولايات العامة الأخرى، فالقوة تشمل العلم وسلامة الحواس والأهلية اللازمة للتقصي والإدراك، والأمانة تشمل الديانة والصلاح الشخصي والعدالة الأخلاقية، وشيخ الإسلام ابن تيمية سار على هذا المنهج المقاصدي ورأى أن جامع صفات من يتولى هذه المناصب في الأمة أن يكون قوياً أميناً وبذلك لم يشر إلى الشروط والصفات الكثيرة التي قررها الفقهاء في كتبهم لمن يتولى أمراً للمسلمين. ثم قرّر أن المقصد العام للقضاء والإمامة والوزارات المتنوعة يجب ألا يغيب على أحد: «وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (فتاوى ابن تيمية 66\28) فالإطار العام للعمل القضائي هو تحقيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه العام المنصوص منه والمعقول. وهذا العمل هو الذي ينتج إصلاحاً رائداً في المجتمعات البشرية، ففساد النظام القضائي فسادٌ للدولة والمجتمع لأنه مرد الناس للإنصاف وإثبات الحقوق ومنع منكرات السياسة والأخلاق العامة كافة. فالقضاء يسير جنباً إلى جنب مع كل مؤسسات المجتمع الإصلاحية، ولا يتحقق هذا الهدف الكبير إلا باستقلال القضاء كلياً عن الجهات التنفيذية؛ بل وخضوعها الكامل لسلطانه، وهذا المعيار هو أهم معايير تطور المجتمعات وتقدمها اليوم ما قد ينعكس على أمنها ورخائها. كما أن هناك دوراً آخر يضاف إلى مهمة القضاء وهو دور الرقابة على تحقق الإصلاح الحقيقي في الواقع العملي، فهو الجهة العليا التي تحاسب وتقضي بالعقوبة على كل من يخلّ بواجبات الدولة من أصحاب الولايات أو غيرهم من أفراد المجتمع، ومما يؤسف له أن في تقرير منظمة الشفافية الدولية لعام 2011م قد وضع الدول العربية في ترتيبات متأخرة غالبيتها بعد المرتبة الخمسين بسبب ضعف الرقابة القضائية واستقلالية القضاء ونزاهته كأهم مؤشرات الفساد القياسية للبلدان (انظر: www.transparency.org). ثالثاً: استصلاح المجتمع بحسب حاجاته الراهنة، فكما أن القضاء يحافظ على مقاصد المجتمع العليا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن له تطوير وسائله الإجرائية في تحقيق هذا المقصد بما يتناسب مع تغيرات المجتمع وحاجات أبنائه في ظل الظروف الراهنة. ومن ذلك: تطوير وسائل العقوبات البديلة عن السجن والجلد في قضايا التعزيرات المتعلقة بالجنح السلوكية، مثل المساهمة في خدمة مرافق المجتمع، والمساعدة في الجمعيات الخيرية، والعمل لساعات محددة في تنظيم وتوزيع الإغاثات أو خدمة المواطنين في مجتمعه. ومن المهام الأخرى؛ التوعية الدائمة بالواجبات الدينية والدنيوية، والتحذير من المنكرات المتنوعة، لأن منزلة القضاة وهيبتهم الاجتماعية تخوّل لهم مقام التوجيه الراشد للمجتمع، وذلك لتوافر العلم الشرعي، واطلاعهم اليومي على واقع المجتمع، وإدراكهم لحاجات الأفراد من التوجيه في قضية أو التغاضي عنها لمصلحة مرجوة في المستقبل. حسابات الأحزاب أو الطوائف فالقضاة أهم المستشارين لأصحاب الولايات العامة، ورأيهم معمول به في القضايا الإصلاحية العامة، وهذا الدور يجعل من القضاة وقفاً على هموم المجتمع ولا ينبغي تحجيمهم في مصالح خاصة، أو أن يتدخلوا لنصرة فريق من المجتمع على آخر بغير وجه حق، أو يخضعوا لحسابات الأحزاب أو الطوائف داخل المجتمع، أو يؤطروا أنفسهم في مقام لا يليق بدورهم الرفيع وشأنهم العالي، فهم موقعون عن الله ومبلغون شرعَه في الأرض. (انظر: الأحكام السلطانية للماودي 1/21). رابعاً: تطوير أدوات التقاضي واجب الوقت المعاصر. فقد كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري رسالة تعتبر من جوامع مقاصد القضاء في كل زمن، ومما جاء فيها: «سلام عليك، أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك، أنفذ إذا تبين لك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاد له، وسوِّ بين الناس بوجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف في عدلك. البينة على من أدعى، واليمين على من أنكر. والصلح جائز بين المسلمين. ولا يمنعنّك قضاء قضيته بالأمس، فراجعت فيه اليوم بعقلك، وهديت فيه لرشدك، أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم، والفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة. ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقس الأمور عند ذلك بنظائرها، واعمد إلى أقربها إلى الله عز وجل، وأشبهها بالحق. واجعل لمن ادعى حقاً غائباً، أو بينة؛ أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينته، أخذت له بحق. وإلا سُجِّلت القضية عليه، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى... وإياك والقلق والضجر والتأذي بالخصوم والتنكر عند الخصومات، فإن استقرار الحق في مواطن الحق، يعظم الله به الأجر، ويحسن عليه الذخر، فإنه من يصلح نيته فيما بينه وبين الله ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس». (سنن الدارقطني رقم 4524) هذه الرسالة الجامعة التي كتبها عمر إلى قاضيه يوصيه بجوامع الأثر النبوي والصلاح الأخروي ويقدم له دستور العدل القضائي ويرسم له مقاصد القضاء الشرعي. وهذه الرسالة تعتبر بحق من أعظم المواثيق الحقوقية التي يفتخر بها المسلمون على كل الأمم، لما حوته من تقدم وريادة وتميز ونضج في الفهم والعمل القضائي، فهذه المآثر الحضارية هي بحق دليل عظمة الإسلام وتنظيماته العادلة وصلاحيته الممتدة عبر الأزمنة والأمكنة. ولعل هذا الإلهام العمري دفع الإمام ابن القيم لشرحها في أربعة مجلدات باسم إعلام الموقعين عن رب العالمين، وأعتقد أن بهذه النصوص الفقهية والقضائية قد اجتمع للمسلمين من حيث التنظير أبدع دستور قضائي يفوق كل المدونات القضائية التي اقتبسها المسلمون في أوقات الانحطاط الفكري والسياسي خلال القرن الماضي، فكيف لو ضممنا لهذا المصنف الرائد ما سطّره ابن فرحون المالكي في كتابه العظيم (تبصرة الحكام) أو (السير الكبير) للشيباني أو (أدب القضاء) لابن ابي الدم وغيرها من مصنفات الإبداع العقلي والإصلاح الإداري كعلامة فارقة للقضاء الإسلامي بالمقارنة بالنظم العالمية. وهذا ما يؤكد ضرورة أن يعود القضاء الإسلامي إلى دوره الريادي في إقامة العدل والإصلاح، ولكن واقعنا المعاصر يؤكد أنه لا يزال في كثير من تلك المجتمعات يراوح مكانه بل وتتقلص دوائره يوماً بعد يوم، أما صورته النمطية في أذهان الشعوب فقد رسمتها الأفلام والمسلسلات والأخبار الصحافية، وأبرزت صوراً شاذة وباهتهة لمنتفعين ومرتشين وأغبياء لا حيلة لهم، وهذه – لا شك - لا تمثّل عموم القضاة ولا تعكس واقعهم الحقيقي. لكن يبقى عبء التغيير وإصلاح القضاء وتطويره ومواكبته للمستجدات مهمة القضاة أنفسهم قبل غيرهم. فهم على رغم كل المحاولات التهميشية لنفوذهم يستطيعون متى أرادوا وصدقوا وتحملوا ثقل التغيير؛ أن يعودوا إلى مركز التأثير الحقيقي ويؤسسوا نواة الإصلاح المنشود لتدور في فلكهم أنظمة المجتمع كلها، فالعمل القضائي المعاصر خصوصاً بعد الربيع العربي، يمر بمرحلة حرجة جداً في توجيه الدولة المستقبلية، فإما أن يستثمر النصر ويحفظ حق الشعوب، وإما أن يزيد الوضع رداءة ويخلط الحق بالباطل.