د. مسفر بن علي القحطاني - نقلا عن الاسلام اليوم مرّت الدولة الإسلامية بأطوار مختلفة منذ تأسيس النبي -صلى الله عليه وسلم- دولته الفتية في المدينة؛ فتنظيمات الجيش وتوزيع الأعمال والمهام الرسمية والمعاهدات والمكاتبات وتطوير آليات الشورى، إجراءات لم تعهدها الجزيرة العربية بأنظمتها القبلية، فكانت التراتيب النبوية قائمة على اختيار الأصلح من أصحاب القوة والأمانة، بغض النظر عن مستواهم الاجتماعي والعرقي أو قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم؛، فقد تولى خالد بن الوليد قيادة الجيش ولم يمض على إسلامه أشهر، وعَهِد عليه الصلاة والسلام الإمرة لبعض أصحابه من غير المقربين، مثل استخلافه ابن أم مكتوم على المدينة ثلاث عشرة مرة في غزواته، و ولّى عتّاب بن أُسيد على مكة، وعثمان بن أبي العاص على الطائف. فمقاصد الحكم في تلك المرحلة كانت قائمة على تحقيق العدل ونشر تعاليم الدين وحماية الدعوة من المهدّدات الداخلية والخارجية. وفي دولة الخلافة الراشدة حدثت تطوّرات تنظيمية في أعمال الدولة، قام عمر بن الخطاب مؤسس هذه المرحلة من الإصلاحات، بإحداث نظام الدواوين المقتبس من الفرس، وكانت لغة هذه الدواوين مثل ديوان الخراج والجند وغيرها تُكتب بلغة أهل الأقليم دون تعريب؛ فأهل العراق يكتبون بالفارسية، وأهل مصر يكتبون بالقبطية واليونانية، وأهل الشام يكتبون بالرومية، ولم تعرّب الدواوين إلاّ في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك عام 86 ه. فالاقتباس الحضاري الكامل والجزئي في شؤون الإدارة والحكم، لم يكن أمرًا مرفوضًا في عصر كبار الصحابة؛ مادام يحقق مقاصد الحفظ للمال وضبط المصالح من الضياع والفساد، وهذه المقاصد هي التي جعلت عمر يجتهد في إبقاء الأراضي التي فُتحت عنوة بأيدي أصحابها، وتصبح أراضي خراجية تنمّي نفقات الدولة التي بدأت في التوسع والانتشار، كما أن هناك مقصدًا واضحًا في تلك المرحلة من الحكم الرشيد يقوم على العمران المدني، وبناء الأمصار، و نشر الدين، وتوسيع بلاد المسلمين. المرحلة الأخرى من التطور في أنظمة الحكم الرشيد، ما أدخله العباسيون من نظام الوزارة في إدارة الدولة، ويأتي الإمام الماوردي والقاضي أبو يعلى في (الأحكام السلطانية)، والطرطوشي في (سراج الملوك) على رأس من كتبوا في النظام السياسي الإسلامي في تلك المرحلة، فعنوا بنظام الوزارة، وخصصوا لها فصولًا مستقلةً، وقد قَسَّموا الوزارة إلى قسمين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ؛ فأما وزارة التفويض فهي أن يستوزر الخليفة من يُفَوِّض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءَها على اجتهاده، ولا شكَّ أن مثل هذا المنصب دليل على مرونة مؤسسة الحكم والخلافة، التي لم تتخذ موقف الإدارة المركزية في كل شاردة وواردة، وإنما كان هذا المنصب تلبية لحاجة المسلمين، وتيسيرًا لشؤونهم وأحوالهم، وأما وزارة التنفيذ فهي أقلُّ شأنًا من وزارة التفويض؛ لأن النظر فيها مقصور على رأي الخليفة وتدبيره، ويكون عمل هذا الوزير أن يُؤَدِّيَ عن الخليفة ما أَمَرَ، ويُنَفِّذَ عنه ما ذَكَرَ، ويُمْضِي ما حَكَمَ، ومعظم الوزراء في تلك المرحلة من الحكم على شاكلة هؤلاء، يُعَيِّنهم الخلفاء؛ لتنفيذ ما يأمرون به في الأمور المالية أو العسكرية أو الاجتماعية. وتبرز أهم مقاصد هذه المرحلة من الحكم في ضبط الدولة ومؤسساتها من الضعف بسبب الاتساع من خلال سياسة التخويل والتوكيل للوزراء تحت سلطة الخليفة ورقابته، كما أن الدولة في تلك المرحلة حرصت على هويتها الدينية والسياسية التي تميزها بعد الاحتكاك العسكري مع الروم لقرون، وكذا الاحتكاك الفلسفي مع الفكر الإغريقي الذي ولّد عددًا من الفرق الكلامية، كان لبعضها سطوة التفرد بالسلطة كالمعتزلة والشيعة، أو سطوة التمرّد على الدولة كالإسماعيلية والقرامطة وغيرهم. أما المرحلة الأخرى فهي مرحلة دولة العصبية والتغلب التي برزت بشكل كبير في المغرب العربي والأندلس، عندما تحوّلت الدول الكبرى إلى دويلات صغيرة، تظهر وتَغلِب ثم تتقهقر وتظهر بعدها دولة أخرى، وفيلسوف هذه المرحلة من الحكم هو ابن خلدون في (مقدمته) لكتابه في التاريخ، ويأتي بعده في تنظير هذه المرحلة من الحكم الفقيه المالكي ابن رشد في كتابه (الضروري في السياسة)، ونبقى مع ابن خلدون الذي أبدع في تنظير هذه المرحلة التي لا تزال هي واقع الدولة المعاصرة حتى اليوم، والفروق بينها وبين ما كان في عصر ابن خلدون راجع إلى تنوّع العصبيات وتطوّرها الزماني حسب التحولات السياسية والتحالفات الكبرى للمعسكرات الغربية أو الشرقية، و يقصد ابن خلدون بالعصبية التي هي محور هذه المرحلة من الحكم؛ أنها الالتحام الذي يكون بين الأقارب أو القبائل والعشائر، والذي يدفع للمناصرة والمطالبة بالمُلك والمغالبة في سبيله ويدخل فيه الحلف والولاء، وغير ذلك من صنوف التكتّل والتحالف القبلي، شاملًا أي نوع من الولاء المفضي للمغالبة في سبيل تلك الغاية. أما الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (فكر ابن خلدون. العصبية والدولة) فقد عرّف مقصود ابن خلدون بالعصبية بأنها "رابطة اجتماعية نفسية تربط أفراد جماعة معينة قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطًا مستمرًا يشتد عندما يكون هناك خطر يهدّدهم". أوهي "قوة جماعية تمنح القدرة على المواجهة سواءً كانت المواجهة مطالبة أو دفاعًا". وينطبق هذا الوصف على أكبر من مجرد قبيلة كانت تتحرك برابطة الدم. فقد ينطبق على الحزب السياسي، إذا اجتمعت في أتباعه هذه الصفة، وينطبق على الجيش إذا تحول إلى حزب سياسي. فوجود رابطة تجمع مجموعة من الناس وتدفعهم إلى التكتل والتضامن والإحساس بالخطر المشترك والتحرك في مواجهة الآخرين هو المقصود بالعصبية. وبناءً على أهمية هذه المرحلة من الحكم سأتناولها بالتعليق وفق مقاصد هذه المرحلة وتنزيلاتها على واقعنا المعاصر: أولاً: يرى ابن خلدون أن العصبية إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء "فالصبغة الدينية تذهب التنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية (العرقية) وتُفرد الوجهة إلى الحق". كما يرى أنه لابد للعصبية الدينية من عصبية أخرى، أو جهة تدافع عنه وتحمي وجوده وهي الشوكة والقدرة والسلطان التي قصدها ابن تيمية بقوله: "فإن المقصود من الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار إمامًا". فوجود المقصد الشرعي القائم على العدل و إثبات الحقوق مع سلطان القوة والجيش، يمنح الشرعية للمتغلب وقد تُنزع عنه تلك الشرعية بفقده لتلك الشروط، مهما بلغت شوكته مادام قد تنكَّر لشرط الحق والعدل في ديمومة تلك الشرعية. ثانيًا: إن عصبية الدولة قديمًا وحديثًا قد تضمحل وتتلاشى قوتها ومكانتها وهيبتها، بسببين ذكرهما ابن خلدون: أحدهما: الخضوع والانقياد للغير لاسيما إذا كان عدوًا متربصًا، وفي هذا يقول: "المذلة والانقياد كاسران لثورة العصبية وشدتها، فإن انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رَئِموا (لزموا) المذلة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة فأولى أن يكون عاجزًا عن المطالبة والمقاومة". و هذا الانقياد -كما وضّح ابن خلدون في مقدمته مفصلاً هذا السبب من العجز-، قد يكون من عدو خارجي، وهذا واضح بيّن، وقد يكون من صديق قريب يهمّش دور السلطة الشرعية، ويستفرد بالقرار ويتبوّأ منزلة الحكم بصورة غير مباشرة؛ سواء كانوا حاشية أو كتّابًا أو حُجّابًا في ديوان المُلك، كما فعل البرامكة في عهد الرشيد، والسبب الآخر المؤدي لانهيار نظام الحكم؛ هو انغماس أفراد العصبة في النعيم والترف والتماهي في الشهوات، مما يجعل سكرتهم تخفي واجبات الحفاظ على الدولة، وتكسر حدّة الخشونة والصلابة في القائمين على الحكم ومتطلباته الثقيلة، وقد لفت القرآن انتباهنا إلى دور الترف والنعيم في هلاك الأمم. كما في قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً). ثالثًا: إن عمر الدول -كما قال ابن خلدون- يشبه إلى حدٍ كبير عمر الإنسان، وتطور الدولة ونموها لا يختلف عن نمو الإنسان الطبيعي، بدْءًا من مرحلة الضعف، ثم إلى القوة، ثم إلى الضعف والشيبة، والخطر الماحق للدول المعاصرة يكمن في وصولها إلى مرحلة الهرم والضعف بسبب بطء الاصلاح، و الأنفة من التغيير، والخوف من التجديد، و الغَيبة عن التحولات واحتياجات العصر، مع التمسك الشديد بمفاصل السلطة، ظنًّا أنه الفعل الصحيح للحفاظ على زمام الدولة وضبطها، كما هي طبائع سنّ الهرم و الشيخوخة التي تصيب الإنسان في أواخر عمره. و هذه الحالة قطعًا سائرة في كل الدول والممالك التي تسير وفق نظام الأفراد وحكم الأشخاص الخاضع لطبائعهم ودورة أعمارهم، وليس القائم على نظام المؤسسات الذي يستطيع البقاء والاستمرار؛ لأنه لا يرتبط بعُمُر المستولي على الشأن كلِّه؛ بل المستمر وفق تطوّر المجتمع واحتياجات أفراده وكفاءة كل جيل بما يحقق المصلحة لمجتمعه. رابعًا: إن الشوكة والعصبية ليست مرتبطة بأنموذج واحد لا يتغير، فقد تحصل الشوكة والقدرة لمن ملك قوة التأثير الواقعي في حشد الجماهير، و قدرتهم لمناهضة الباطل أو الظلم الواقع عليهم، فإذا كان قديمًا يحصل بمن يقدر على امتلاك السلاح والعسكر، فإن العصر الحديث أثبت أن صوت الشارع وقوة تنظيمه أقدر على إحداث التغيير بسرعة هائلة لا تحسمها المعارك والحروب، وأضحت وسائل التواصل الإلكتروني و أجهزة الاتصال الحديثة بأنها القوة الناعمة والسلاح المؤثر في التغيير أو التثبيت لأي نظام سلطوي. خامسًا: إن ما حصل في الآونة الأخيرة في بعض الأقطار العربية من سقوطٍ سريعٍ لأنظمتها العتيقة، هو سقوط أيضًا لكثير من الأفكار والمفاهيم التي خيّمت على الناس لعهودٍ طويلة، تجرّعت فيها المجتمعات بسببها ألوانًا من القهر والذلة واستعلاء الباطل وهدر الحقوق، تحت ذريعة الخوف من الفتنة التي اُختُزِلت في المحافظة على كيان الباطل ومصلحة الظالم، دون اعتبار لفتنة الاضطهاد الديني والتهميش الحقوقي للإنسان، مع تناسٍ واضح لمقاصد الشرع من الاحتساب على الظالم، والأخذ على يديه رحمة بالخلق ونصرة للحق، والتغيير اليوم إذا لم يحمل مفاسد وأضرار، ولم يُسبب هتكًا لضرورات الشرع مع رؤية واضحة للإصلاح المنشود؛ كان تغييرًا رشيدًا جاريًا على مقاصد الدين، وسياسة الدنيا به، وبوصلة النظر في تحقيق هذه المصالح و البُعد عن المفاسد الواقعة أو المتوقعة؛ ليست متروكةً لآحاد البشر وأصحاب الأهواء والمتعجلين من أهل الطيش والغرور؛ بل هو مقام شديد و منزل عظيم لا يتصدر له إلاّ من زَكَت نفسه، ونَضُجَ عقله، و كَمُلَ علمه، وتكاثر مؤيدوه، وقلّ معارضوه، وحينها ستظهر معالم الحق وشواهد الصدق على هذا المنحى من التغيير، ولن تكون العاقبة إلاّ للمتقين، ولن يصلح الله عمل المفسدين، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.