لم يعرف النظام السوري كيف يتعامل مع الانتفاضة الشعبية عندما كانت سلمية فحسب، لذا استخدم كل ارهاب الدولة وأصرّ على القتل والتنكيل والتعذيب والخطف كي يدفعها الى «التعسكر» ولو جزئياً، حتى يتمكن عندئذ من السعي الى الحسم العسكري، كما يفعل اليوم. لكن مئات التظاهرات السلمية لا تزال تخرج وتتحدّاه يومياً واسبوعياً، وهي التي تشكل جوهر الانتفاضة. لكن، الحسم من أجل ماذا؟ فيما تُدّك حمص والزبداني وغيرهما بالمدفعية والصواريخ وبمشاركة الطيران الحربي، أعلن - مثلاً - أن الرئيس السوري تسلم نسخة من الدستور الجديد المعدّل. لا بدّ أنه يعتقد أنه «سيحسم» عسكرياً، أي سيكسر الانتفاضة، ثم ينصرف الى العمل كالمعتاد، ليقول كما قال مرّات عدة أن سورية تجاوزت الأزمة وأنها تستطيع الآن أن تطرح «الاصلاحات» التي تؤمن للنظام امكان الانتقال ب «الممانعة» الى مرحلة جديدة مظفرة. لا شك في أن هذا وهم آخر من أوهامه الكثيرة، لكن الدعم الروسي والايراني (بمشاركة «حزب الله» اللبناني) وحتى الصيني، الذي اتخذ أخيراً أشكالاً عملانية مباشرة شجع النظام على اعتباره خياراً صائباً. «اقتل شعبك ولا تتحدّث اليه»، لا يُستَبعد أن تكون هذه هي التوصية، فجميع من يؤازرون نظام دمشق مرّوا بهذه التجربة ونجحوا بدليل انهم لا يزالون موجودين، بل موجودين الى جانبه. وفي النهاية، ظن العالم ان وزير الخارجية الروسي أستُحِثّ الى دمشق لترشيدها، فإذا به اصطحب مدير الاستخبارات للتأكد بأن «خطة الحسم» تسير وفقاً لما يرام، الى حدّ أن يسأل نظيره السوري هل يمكن أن يدعوه قريباً الى «الغداء في حمص». أصبحت مساندة الحلفاء الثلاثة أكثر اهتماماً بالتفاصيل وبسدّ الثغر الحدودية، فالروسي قدّم ملاحظات مرفقة بخرائط، والصيني دعي الى تقديم ودائع مالية لدعم صمود النظام، و «فيلق القدس»الايراني استعد لكل ما تتطلبه معركة يعتبرها معركته، وتشدد «حزب الله» حيال أي سلاح يهرَّب من لبنان حتى لو اضطر لشراء ما يصادفه في السوق ليمنع وصوله الى خارج الحدود، وقدّم الجيش اللبناني مساهمته بحملة وانتشار في الشمال، أما العراق فكرّس وضعه كممر ايراني وشريان حيوي يوفر للنظام كل ما يلزم لانجاز الحسم. لكن، مرة أخرى، مَن يحسم ضد مَن، ومن أجل ماذا في نهاية المطاف طالما أن النظام السوري لن يتمكن من البقاء مهما أمعن في «الحسم»؟ ما يتأكد حالياً هو أنه يعلّق خلاصه على استدراج صراع اقليمي - دولي على سورية، أما حلفاؤه الثلاثة فيستخدمونه كلٌ لأسبابه في موقعة ضد اميركا والغرب. كانت روسيا والصين كظمتا الاهانة في مسار الأزمة الليبية اذ لم تستطيعا تمكين نظام القذافي من ابادة قسم من شعبه لتتجنبا ما تعتبرانه «خدعة» وقعتا ضحيتها، ولم يسمح لهما موقع ليبيا على تخوم اوروبا امكان التصدي والردّ، أما موقع سورية وطبيعة نظامها فيزيّنان مثل هذه الفرصة. في ليبيا أتاحت الدولتان الكبريان التدخل ظانّتين أنه لن يحصل أو سيفشل في تحقيق هدف الشعب الليبي، وفي سورية تريان أن الغرب لا يريد التدخل لذا تتدخلان بغية استدراجه لهزمه ومنعه من تحقيق الهدف نفسه وقد توفّر لهما نظام لا يتورع عن خوض هذه الحرب بالوكالة في سبيل أن يبقى، وإلا فمن بعده الطوفان. كان متوقعاً أن ما بعد «الفيتو» المزدوج لن يكون كما قبله. فالوجوه انكشفت تماماً الآن، والحل السياسي الذي اقتبسه العرب عن اقتراح روسي أثبتت روسيا بإفشاله في مجلس الأمن أنها كانت تشتري الوقت لدمشق، ولم تكن تبحث عن أي حل آخر غير انتصار النظام على شعبه. وطالما أنه لم يعد مجدياً للعرب أن يدوروا في لعبة روسيا أو في لعبة النظام، فقد كان من الطبيعي أن تغيّر الجامعة طبيعة مبادرتها، أولاً بنزع أي غطاء عربي تبقّى للنظام وبإنهاء مهمة المراقبين غير مأسوف على رئيسها «المستقيل»، ثم بالعودة الى مجلس الأمن لطلب «قوة لحفظ السلام» سترفضه روسيا ما يبرر تالياً تشكيل «تحالف دولي لأصدقاء سورية» ولو تحت المظلة «غير الملزمة» للجمعية العامة للأمم المتحدة. أي أن الجامعة وسّعت الخيارات، وفيما أبقت الحل السياسي على الطاولة فتحت الباب أمام تدويل يبقى وجهه عربياً. وفي المقابل يجري أيضاً توسيع الخيارات الدولية، فالأمم المتحدة تأخذ في الاعتبار ان ممارسات نظام دمشق اقتربت جداً من الابادة وباتت تستوجب التدخل لأهداف انسانية. قد يتوصل الحوار الجاري بين دول الخليج وموسكو الى اختراقٍ ما، إلا أنه لن يلبي سوى جزء من المساومات العديدة التي طرحتها روسيا كثمن لتخليها عن النظام السوري، أما الجزء الأهم المتعلق بإيران ومنظومات الصواريخ والرادارات الغربية فلا تملك دول الخليج القدرة على معالجته. قد ينشّط هذا الحوار اعادة البحث في «السيناريو اليمني» للرئيس السوري، فروسيا مدركة أن نظام دمشق آيل الى السقوط لكنها توظّفه في توسيع بازار المساومات للاستفادة منه قبل سقوطه، وقد تكون ايران استبقت التحرك الخليجي فرشَت روسيا لتدعم صمود النظام وسعيه الى «الحسم» بل لتدفع الى مواجهة دولية بين «حلفاء النظام» و «أصدقاء سورية»، وهي مواجهة تريدها موسكو لإجبار دول الغرب على المساومة الكبرى، وكلما تأخرت هذه أو استعصت كلما عنى ذلك أن حمام الدم في سورية سيتسع. للأسف، وصل المجتمع الدولي الآن فقط الى الموقف الذي بدا حتمياً منذ اللحظة الأولى للانتفاضة السورية. ترك النظام يقتل ومنحه فرصاً ليرتدع، وها هو يتركه يدمّر ويمعن في خيار الابادة. لا يبدو أن كلفة الدم، وقد ناهزت العشرة آلاف قتيل وأضعافها من الجرحى، بلغت الحدّ الذي يدفع المجتمع الدولي الى تحرك استثنائي لوقف كارثة محققة ومعلنة، فهو تأرجح كثيراً في استكناه مدلولات الحراك الشعبي العربي وقيمه وطموحاته. وفي مقابل وضوح المنحى المصلحي لدى روسيا، ووضوح توافق موضوعي ايراني - اسرائيلي على تفضيل بقاء النظام، لا يوجد مثل هذا الوضوح لدى دول الغرب لا سيما الولاياتالمتحدة التي لا يزال «ما بعد النظام» غامضاً ومشوّشاً في نظرها، وهي إذ بلغت مرغمةً مرحلة «تحالف الأصدقاء» فإنها قد تستهلك شهوراً دموية طويلة قبل أن تحسم أمرها بالنسبة الى مصير النظام، ما يعني شهوراً مفتوحة على كل أنواع الابتزاز. * كاتب وصحافي لبناني