أثبتت نقاشات مجلس الأمن هذا الأسبوع حول سورية أن الأمر أكثر استعصاء مما ترغب في إعلانه الأطراف التي تبشر يومياً بقرب سقوط النظام، مستندة إلى عزلته العربية والدولية، وإلى اتساع دائرتي التمرد عليه في الجيش وفي الانتفاضة الشعبية في آن. ومن جهة أخرى، كانت الفترة التي ابتدأت مع تبني الجامعة العربية مشروع القرار الذي صاغه المغرب، وتوجهها به إلى الأممالمتحدة، تنبئ بلا كثير جهد بما سيرتكبه النظام من مضاعفة لأعمال القتل، سعياً إلى حسم الأمور وإسقاطها بيد أعدائه. وقد ظهر بوضوح أن مجلس الأمن سيخوض في سجالات طويلة، تواكبها مفاوضات في غرف جانبية سعياً إلى صيغ تسوية من أجل التوافق على قرار ما. وأن هذا، لو تحقق، فهو لن يطابق بالتأكيد ما بات يقال له المشروع العربي. وأن فكرة توجيه أي نوع من الإنذار لبشار الأسد تعطيه مهلاً، ستواجه بفيتو روسي وآخر صيني، رغم التفاوتات في مواقف الدولتين. كما ظهر أن دولاً عديدة ذات وزن، كالهند وجنوب أفريقيا والبرازيل، مستمرة في موقفها المتضامن مع روسيا والصين، بما يجعل لمحور «بريكس» ذاك وزناً لم يعد من الممكن تجاهله. وللتذكير، وتهدئة الخواطر، فقد مارست الولاياتالمتحدة مراراً الفيتو، خصوصاً لأجل إسرائيل، مدعومة فحسب من دولة ميكرونيزيا التي لا يمكن تبيّن موقعها على الخريطة، وبالضد أحياناً من مواقف أقرب حلفائها إليها، أي بريطانيا وفرنسا، ولم تخش في ذلك لومة لائم. هكذا هي قواعد اللعبة الدولية. وهي ظالمة، من الملح تغييرها، خصوصاً في وجهة إلغاء السلطة التقريرية لمجلس الأمن، ومعه حقوق الفيتو، والاعتداد بقرارات فاعلة للجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن الأمر ليس كذلك بعد. كما ظهر بوضوح أن الشطارة لا محل لها هنا. ويمكن للسيدة كلينتون أن تؤكد بمقدار ما تشاء أن ليس في نية أحد ارتكاب عمل عسكري، وأن ليبيا أخرى غير واردة، وأنها متفقة مع روسيا على ضرورة حل هذه الأزمة سلمياً. فطالما هي تردف ذلك ب «على الأسد أن يرحل ويتيح لآخرين بدء عملية انتقالية سياسية»، فإن الخلاف واقع رغم تلك النيات المعلنة. ويقابل هذا مقترح روسي عن بدء العملية الانتقالية فوراً عبر خطوة الحوار الوطني الشامل الذي تقترح موسكو استضافته، ويقدم تصوراً مغايراً عن الحل السلمي للأزمة السورية، يدرج في سياقه اعتبار النظام السوري ومصالح جهاته. ولهذا، فالضجيج الكلامي عن «تحقيق تقدم في مجلس الأمن» كما يقول بتفاؤل بعض الديبلوماسيين الأوروبيين، معتدين بإمكان تقريب وجهات النظر وتليين الموقف الروسي، يبدو أقرب إلى هجوم مسبق لتغطية الفشل في إنجاز «الخطوة» الحاسمة المنتظرة: إقرار آلية دولية تتعامل مع سورية على أساسٍ ركيزته جدول لرحيل السلطة الحالية. وهي آلية تصلح لاحقاً كمنصة لتأويلات في الأساليب المطلوبة، وفق الظروف. وقد أوضح السفير الروسي ذلك قائلاً إن ليس من «صلاحية مجلس الأمن الدعوة إلى نقل السلطة في أي مكان، وليس من مهماته تقديم وصفات للدول»، مضيفاً بما يشبه التهديد: «لأننا يمكن أن نتابع في تقديم الوصفات للملوك والرؤساء بالتنحي». من المعلوم أن مجلس الأمن لا يمكنه التدخل إلا في الحالات التي يوجد فيها تهديد للسلم الدولي، وأن السابقة الليبية كانت بدعة. وربما لمعرفته بذلك، يلمح رئيس وزراء قطر إلى أن هناك قمعاً ممنهجاً في سورية «قد يرقى إلى مستوى الجريمة ضد الإنسانية»، ما يمتلك هو الآخر أحكامه في شأن التدخل الدولي. وبهذا تعود القاعدة الذهبية التي تحكم الموقف في سورية إلى البروز: هناك حاجة إلى حل سياسي يراعي المعطيات العنيدة القائمة على الأرض. وهذا شأن لا علاقة له بالعواطف ولا بالأخلاق. ويمكن أن يدور جدال طويل لتحديد خريطة هذه الأخيرة. فمن قائل وعن حق، إن بحر الدماء المراقة والعذابات التي مر بها الشعب السوري، وصموده المدهش رغم ذلك، بل استماتته طلباً لما أصبح خلاصاً من هذا النظام، كل ذلك يستحق الدعم والاستجابة... إلى قائل وعن حق أيضاً، إن الأقليات في سورية مهددة وخائفة على مصيرها إذا انهار هذا النظام، وإن المنطقة برمتها (بالأخص العراق ولبنان، البلدان الجاران والهشَّان)، يمكن أن تشهد تزعزعاً خطيراً ودورة عنف مدمرة خلال سياق النزول السوري إلى الجحيم، ثم بناء على النتائج التي سيرسو عليها التغيير... إلى ملاحِظ ثالث محق هو الآخر، بأن أعتى العاملين للتخلص من السلطة الحالية القائمة في سورية بعيدون من الديموقراطية بمقدار بعدها هي عنها، وأن لديهم دوافعهم السياسية الخاصة التي تصب في حسابات الصراعات الإقليمية والدولية، بما لا يجعلها أكثر وجاهة (في أفضل اعتبار) من مصالح الجبهة المناوئة لها. وأن الجملة التي ختم بها رئيس وزراء قطر مداخلته في مجلس الأمن تبدو غريبة (أو فلنقل إنها زلة لسان غير موفقة)، حين قال «نريد العمل لإطلاق الديموقراطية في دول العالم ومنها سورية». يخطئ النظام السوري بالتأكيد في تخيل إمكان الرجعة إلى الوراء ومحو هذا الذي جرى ببعض التدابير الشكلية والتجميلية، بل حتى بتسوية تبقيه على رأس البلد (كما حدث إثر 1982-1989). ويخطئ في رهانه على كسب الوقت، وعلى جولات القمع، وعلى إنهاك شعبه، وعلى الحماية الروسية له والالتزام الإيراني به بما يجعل قضيته مدرجة في سياق الصراع الإقليمي والدولي. وليس له أن يفرح إذ يتضح أن «قطوع» مجلس الأمن مسيطَر عليه، وأن هذا الأخير عاجز في نهاية المطاف طالما لا إجماع ضد النظام السوري، ولا قِبَل لجهة خارجية بشن حرب عسكرية عليه من أي نوع. وتخطئ بالتأكيد المواقف التي تتبناها أكثر من جهة، سورية وغير سورية، والتي تتخيل أنه يمكن البدء بالحل السياسي من نقطة حسم جذرية وفورية، وهو الموقف الذي يبرر رفض «مبدأ» التحاور مع النظام، وليس فحسب نقد شروطه وظروفه، والتي يفترض كما في كل زمان ومكان، أن يدور الصراع السياسي بين الجهات حول تحسينها، كلٌ لمصلحته. ماذا يبقى؟ أن تتمترس الجهتان المتقابلتان خلف الجثث، هذه تهدد بالمزيد منها وتلك تستعرضها وتولول عليها لاستدراج الدعم.