سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ما ذكره الشيخ العبيكان لم يكن مبادرة جديدة، ولكنه حل لواقع ملموس رداً على تعقيب الشيخ عبدالله الغيث حول الحوار الذي أجرته «الرياض » مع الشيخ العبيكان في موضوع تقنين الأحكام القضائية:
إشارة إلى ما نُشر في صحيفة «الرياض» الغرّاء بعددها الصادر يوم الجمعة برقم 1358 وتاريخ 20/3/1426ه من حوار أجرته الصحيفة مع معالي الشيخ عبدالمحسن بن ناصر العبيكان عضو مجلس الشورى والمستشار القضائي في وزارة العدل، وما تلا ذلك من تعقيب نشرته الصحيفة في عددها الصادر يوم الجمعة برقم 13479 وتاريخ 12/4/1426ه للأخ عبدالله الغيث، تضمن بعض المآخذ التي يراها على ما أدلى به معاليه حول صياغة الأحكام القضائية وتحويلها إلى مواد نظامية تكون هي مرجع القضاة في أحكامهم. ولما وقع في نفسي بعد قراءتي للتعقيب المذكور، ورغبة مني في استدراك بعض ما فات الأخ المعقب، ومن باب المشاركة المتواضعة في هذا الموضوع، أقول وبالله التوفيق: أولاً: أن كلام الشيخ العبيكان لم يكن مجرد مبادرة لتطوير أداء القضاء في بلادنا والتحسين من مستواه فقط، وإنما هو طرح لأحد وسائل العلاج لما يعاني منه القضاء حالياً من أزمات أدت إلى وقوعنا في حرج أمام الجهات الخارجية فضلاً عمّا يعاني منه المواطن أثناء تنقله بين درجات القضاء المختلفة من تأخير وتعطيل، وعدم توافق في الأحكام بين كل قاض وقاض وغير ذلك من المآخذ التي أدت بولاة الأمر إلى سن بعض الأنظمة الجديدة، كنظام المرافعات الشرعية، ونظام الإجراءات الجزائية، ونظام المحاماة، وما صدر مؤخراً من تنظيمات جديدة لأجهزة القضاء ودرجات التقاضي فيها، وبالرغم من كل هذه التحديثات في مجال القضاء إلاّ أن ذلك لا يتعدى التنظيم الشكلي، وإن ساهم في تحسين أداء القضاء نوعاً ما إلا أننا لا نزال نفتقر لتنظيم موضوعي لأعمال القضاء يكون مبنياً على قواعد وأصول صحيحة، وأقوال راجحة. ثانياً: لم يكن ما أدلى به الشيخ العبيكان مجرد تصورات واقتراحات نابعة عن أفكار نظرية مجردة، بل هو كلام صادر ممن عاصر القضاء في بلادنا سنين طويلة واكتسب الخبرة والممارسة الكافية لاحتكاكه المباشر بالقضاء والقضاة، ومعايشته لعامة الناس وملامسته لواقعهم، وبالتالي فكلامه كلام العارف المطلع. ثالثاً: أن الدعوة إلى صياغة الأحكام القضائية في هذه البلاد لم تكن وليدة عصرنا هذا، وليست فكرة استحدثت مصاحبة لدعوات الإصلاح الداخلي الأخيرة، بل هي فكرة قديمة دعت إليها ضرورة العصر ومتغيراته، ثم تأكدت في وقتنا الحاضر، وبالتالي أعيد طرحها. وقد تكلم العلماء السابقون في هذا الموضوع، ومع أن بعضهم توقف في بيان موقفه من هذه الفكرة إلا أنه لم ينقل عن أي من هؤلاء المتوقفين قول بالمنع، فضلاً عن أن جمهور العلماء في الوقت السابق والراهن لا يمانعون لفكرة تقنين الأحكام القضائية، فالمصلحة في ذلك ظاهرة لا ينكرها إلا مغالط. وقد نقل عن كثير من العلماء بعض الفتاوى والبيانات التي ترى أهمية تقنين الأحكام القضائية والحاجة إلى جمعها في مواد نظامية، مما لا يتسع المقام لإيرادها. وفي هذا الشأن ألّف الشيخ د.عبدالعزيز القاسم عام 1385ه كتاباً بعنوان (الإسلام وتقنين الأحكام، دعوة مخلصة لتقنين أحكام الشريعة) توصل من خلاله إلى أن هذه الدعوة أصبحت ضرورة محتّمة، هذا في عصره ،، فكيف بزماننا هذا، وقد حاز هذا الكتاب على إشادة وتقدير كثير من العلماء منذ ذلك الوقت حتى وقتنا الراهن. رابعاً: أن المصلحة المتحققة جرّاء صياغة الأحكام القضائية في مواد نظامية مصلحة كبيرة، وليس هناك حاجة لتبيانها وشرحها فهي بينة ظاهرة ولا أريد أن أزيد على ما أدلى به معالي الشيخ عبدالمحسن العبيكان، إلاّ أن المصلحة من تقنين الأحكام القضائية تبرز بشكل أكبر في المسائل الجنائية والتعزيزات والتي تعاني الأحكام فيها حالياً من تفاوت واختلاف، فنجد أن حكمين مختلفين صادران في جريمتين متحدتين في الوقائع والملابسات، فقط لاختلاف القاضي في كل جريمة!! كما أن بيد القاضي سلطة تقديرية مطلقة، فله أن يحكم بالتعزير من جلدة واحدة حتى القتل، بل قد يكون هذا القاضي صغير السن حديث العهد بالقضاء، ومن هنا تكمن أهمية تقييد القاضي وحصر اجتهاداته في أطر مؤصّلة تأصيلاً علمياً مدروساً وفق قواعد مستمدة من الشريعة الإسلامية. خامساً: أن مما يحز في النفس أن كل من قصد التطوير وسعى إليه في أي مجال كان، فإنه ينبري له من يتهمه في مقاصده ونياته، حتى أصبح من يحمل رايات التطوير في نظر البعض أشبه بمن يحمل معولاً لهدم المجتمع!! ومن ذلك أصبح من ينادي بفكرة تقنين الأحكام القضائية في نظر البعض داعياً لتعطيل الشريعة والتشبه بالغرب وغيرها من الصيحات المعروفة والتي تقال في مثل هذه المواقف. سادساً: لقد رأيت أن من حق الشيخ علي أن أبين ما قد يشكل على البعض من كلامه، ومن ذلك ما عقب به الأخ عبدالله الغيث على اللقاء، الذي أجرته صحيفة «الرياض» مع معالي الشيخ عبدالمحسن العبيكان، وذلك كالتالي: 1- ذكر المعقب أن فضيلة الشيخ عبدالمحسن العبيكان أشار إلى أن كتب الفقه فيها عبارات قوية، وثقيلة، لا يستطيع فهمها كثير من الناس. ثم أعقب ذلك بافتراضه أن مراد الشيخ بلفظ (الناس) هم القضاة، ومن ثم يستنكر على الشيخ وصفه لهم بتدني العلم والفقه والفهم!! وأقول إن مقصد الشيخ من عبارة (أن كتب الفقه فيها عبارات قوية وثقيلة لا يستطيع فهمها كثير من الناس)، كان واضحاً ومفهوماً ودالاً على ما تدل عليه كلمة الناس على إطلاقها والتي تشمل عامة الناس، وذلك لا يحتاج إلى أي افتراض كما فعل الأخ المعقب الذي جعل مقصد الشيخ من كلمة (الناس) أنهم (القضاة)!! فهذه مخالفة كبيرة، ومغالطة ظاهرة، أمّا أن يقوم الأخ المعقب بافتراضات ويستنتج منها مدلولات لا يمكن أن ينازع فيها الفرد العادي، فكيف بمن عُرف بالعلم والصلاح، فهو أولى أن يكون أورع من أن يصف القضاة بالتدني في العلم والفهم!!، بل إن هذا تحميل للكلام في غير محله، وتحريف لمقاصد العبارات بالرغم من وضوح ألفاظها، وهذا غلط كبير، وتجنّ خطير اختلقه المعقب ونسبه إلى معالي الشيخ دون أي مبرر. 2- أوضح المعقب أن الحل الأمثل لعامة الناس هو جلوسهم عند العلماء الراسخين لكي يشرحوا ويبينوا لهم عبارات الفقهاء، ولذلك بدلاً من صياغة أحكام الفقه في مواد نظامية، والتي ذكر أنها تزيد عليهم الأمر تعقيداً. وأقول أن هذا ليس هو الحل الأمثل، ومع إقرارنا بأهمية العلم وفضل طلبه، إلاّ أنه ليس من المتصور عقلاً ولا شرعاً حث جميع الناس وبالذات العوام للجثو عند ركب العلماء طلباً للعلم الشرعي، بل إن مقتضيات الحياة وظروفها تقضي بتنوع العلوم المراد تحصيلها، إذ لا بد أن يكون إلى جانب الفقيه الشرعي، طبيب، ومهندس، وغيرهما،، ثم إنه ليس في الأمر زيادة تعقيد كما ذكر المعقب، بل إن صياغة الأحكام الفقهية في مواد نظامية يسهّل لغير المختصين في الفقه وحتى العوام يسهل عليهم فهمها وإدراك مقاصدها، لذلك أن من خصائص المواد القانونية أن تكون واضحة ومفهومة للعامة، في حين أن ما تتضمنه كتب الفقهاء من عبارات واصطلاحات لا يفهمها إلا أهل الاختصاص الفقهي، ولذلك برز علم أصول الفقه كمدخل وممهد لدراسة الفقه. 3- بيّن المعقب استغرابه وعجبه من فضيلة الشيخ عبدالمحسن العبيكان لإطلاق فضيلته على القضاة بكافة درجاتهم القضائية بدءاً من رئيس مجلس القضاء الأعلى وقضاة التمييز وقضاة المحاكم بكافة أنواعها، لفظ (التلاعب). وأقول إن المعقب بفهمه هذا لم يوفق للمرة الثانية في النقل والفهم، حيث إن ما ورد في كلام الشيخ من لفظ (التلاعب) لم يكن موجهاً لرئيس مجلس القضاء الأعلى، ولا إلى قضاة التمييز، ولا إلى غيرهم من قضاتنا الأفاضل، بل إن كلمة (رئيس مجلس القضاء الأعلى)، وكذلك كلمة (التمييز) لم تردان اطلاقاً ضمن كلام الشيخ!! فكيف يأتي أخونا المعقب بهذا الكلام؟؟ وكيف ينسب للشيخ أنه تكلم به؟؟ وهو بهذا أيضاً يقع في ما وقع فيه من أن ينسب للشيخ ما ليس إليه، ويتقوّل عليه ما لم يقل!! ثم إن كلام الشيخ - حفظه الله - كان واضحاً لا يحتاج إلى تأويل كما فعل المعقب، حيث كان الشيخ يقصد التلاعب الذي قد يحصل من بعض المحامين الذين أتاح لهم الوضع الراهن التلاعب بآراء الفقهاء وأقوالهم والاعتراض بها أمام القضاء،، كما أبان الشيخ العبيكان أن الوضع الحالي يتيح لبعض القضاة إمكانية التلاعب بالآراء والأقوال الفقهية وتحييدها لما يوافق هواه ومصالحه، ومن المعلوم أن القضاة بشر لا يعصم أحدهم من الخطأ أو الزلل، ولذلك قال المصطفى عليه الصلاة والسلام (قاض في الجنة، وقاضيان في النار)، كما أن كلام الشيخ ورد بما نصّه (قد يكون هناك من القضاة من يتلاعب) فكلمة «قد» هنا تفيد الاحتمال، كما أن كلمة (من) للتبعيض، إلا أن المعقب أصلح الله نيته يأبى إلاّ أن يعمم ما خصصه الشيخ، ويفهم ما لا يُفهم من كلامه. 4- أن الأخ المعقب الشيخ عبدالله الغيث، يعتبر من منسوبي السلك القضائي وهو في بداية ممارسته لهذه المهام التي نسأل الله أن يوفقه فيها، أما معالي الشيخ عبدالمحسن العبيكان فهو من المعروفين بالعلم والصلاح، كما أنه أحد قدامى القضاة في هذه البلاد، وله من الخبرات والممارسات ما يجعله ذا نظرة ثاقبة بحكم اطلاعه واحتكاكه بالقضاء والقضاة، لذا كان الأولى بالشيخ عبدالله الغيث ألا يضع نفسه أمام الشيخ العبيكان في هذا الموقف، وكان الأجدى به أن يستفيد من خبرة الشيخ ومكانته، ولو أنه عندما حصل لديه هذا اللبس توجّه لشيخه عبدالمحسن العبيكان لأبان له الشيخ المقصود وأوضح له ما خفي عليه. ختاماً أسأل الله القدير أن يوفق هذه البلاد وقادتها وقضاتها للحكم بشرعه، وأن يلهمنا جميعاً سبيل الرشاد، والله أعلم.