تنتشر أخبار كثيرة حول تحرّشاتٍ جنسيّةٍ في الأماكن العامّة والخاصة، من دون وجل ولا رادع أمنيّ أو أخلاقيّ أو ديني لهذه الآفة المُشينة. مَن المسؤول عن تفاقم انتشار ظاهرة التحرش الجنسي في مجتمعاتنا؟ أهي الأنثى، أم الذكر، الأسرة أم المجتمع؟ وهل السّافرات والمُتبرّجات وحدهُنّ مَن يتعرضن للتحرش الجنسيّ؟ وماذا عن المتستّرات والمتحجّبات؟ ما أسباب ازدياد انتشار ظاهرة التحرش الجنسي هذه الأيام؟ هل بسبب البطالة والظروف الاقتصاديّة الصّعبة أم بسبب أزمة تأخّر الزّواج وغلاءِ المهور والشققِ السّكنيّة؟ بسبب خللٍ أمنيّ منقوصٍ في الشّوارع والمناسبات والأعياد، أم لخلل منقوص في الإضاءة والتنوير؟ هل تفتقر بلادنا إلى الطاقة الكهربائيّة لإنارة الشوارع والأماكن المشبوهة؟ أم تفتقر بلادنا إلى رجال شرطة ورجال أمن تُزوّد بهم الشوارع والمؤسّسات والأماكن العامّة، ليضفوا على آهليها وعابريها أمناً وأماناً؟ أم تفتقر بلادنا لكنائس ومساجد ودور عبادة ومؤسسات تربوية لتهذيب الأخلاق؟ ربما بسبب الانفتاح المفاجئ على العالم الخارجيّ وتقنيّاته الإلكترونيّة والفضائيّة، من دون تهيئة الظروف والمجتمع لتنمية هذا الجديد ورعايته بطرق سليمة ووقاية فاعلة إيجابيّة في المجتمع؟ ثمّ... هل فئة المُتحرّشين الجنسيّين تقتصر على فئة عمريّة مُحدّدة مِن مراهقين وشباب صغار؟ أم على فئة مِن الذكور، أم من الإناث، أم من كلا الجنسين، في ظلّ انتشار المثليّة والسّحاقيّة؟ هل فئة المتحرشين تقتصر على فئة فقيرة مُعدمة وغير مثقفة؟ أم على فئةٍ لا تتمتع باختلاط الجنسين؟ وهل سلوك المتحرّش الجنسيّ يعكس شخصية الفرد نفسّه، أم يعكس شخصية بيئته ومجتمعه؟ سلسلة طويلة من الأسئلة حول أنواع التحرّش وأسبابه، ولكن ما من إجابة قاطعة فاصلة تماماً في خضمّ المبرّرات التي يساهم المجتمع في خلقها بدلاً من علاجها. في الفترة الأخيرة ومع الانفلاتات والانقلابات والثورات والهمهمات السّياسيّة في دولنا العربية، ظهرت تقنيّاتٌ جديدة واسعة الاستعمال، مِن أجل مواجهة التحرّش الجنسيّ، فهناك من يراهن على نجاعتها كليّاً أو جزئيّاً، وهناك مَن ينفي نجاعتها في بيئة تغلب فيها الأميّة، لأنّ استخدام معظم هذه التقنيّات يحتاج إلى معرفة وثقافة وقراءة، مثل المحمول والنت، وعبر إرسال إشارات استغاثة لكمبيوتر مركزي، يرد بدوره بإرشادات للمساعدة، وتزويد بخريطة يمكن مِن خلالها تفادي شوارع وأماكن تكثر فيها حوادث التحرّش. كما أنّ الحكومةَ الأوغنديّة تعهّدت بمنح الفتيات بخّاخاتٍ مجانيّة من رذاذ الفلفل الحارّ، من سن 15 - 18 عاماً للحماية مِنَ التحرش الجنسي والاعتداء، وللنّساءِ بين 18 و30 عاماً لتجنّب خطر الاغتصاب، وتدريبِهنّ على طريقة استخدام هذا السلاح الذي يَحرق عيون المُعتدين ويُشغلهم بآلامهم، وبذلك تفلت الضحية من الاعتداء! هل البخاخات هي سلاح قانونيّ قد يخدم المجتمعات في شكل فعلي في جميع أنحاءِ العالم للدّفاع عن النفس وفي كل وقت؟ جلست على الكنبةِ مهمومةً حائرة، وصوتٌ مِن بعيدٍ يسألها: هل تشعرينَ بالخوف في الشارع؟ هل تحدث لكِ مشاكل؟ هل يُضايقك ما تسمعينه مِن المعاكسين لكِ؟ بسيطة... الدّلوعة للتسويق التلفزيونيّ تقدّم لكِ الحلّ، مانع التحرّش تضعينَه تحت ملابسكِ وتمضين من دون خوف. وأختنا بالله تنتفض مِن على الكنبة فرحة بهذا الحلّ، ويغمرها الفرح، وتنقلب معنويّاتها 180 درجة، ومن حالة الرّعب تمضي بثقةٍ، تتسكّع في الشارع، تمشي وتتمايلُ بملابسها المثيرة لاجتذاب فضوليّين مِن شباب تسري في عروقهم رغبة جامحة، وتؤدّي دورها التمثيليّ لدعاية دلوعة التسويقيّة! نعم، بحوزتها ما يحميها الآن، دلوعة تقدّم الحلّ، «مانع التّحرّش الجنسيّ»، جهاز مربع الشكل تضعينَه داخل ملابسك، يُمتعكِ بالأمان، ويُشعِرُ المُتحرّش بالصّداع الشديد إذا اقترب منكِ، وبالهالة الكهرومغناطيسية تشلّ يدَهُ إذا حاول لمْسَكِ، وسماعة إضافيّة تمنعُكِ مِن الاستماع لبذاءاتِ المتحرّشين، وبإمكان هذا الجهاز أن يصعق 15 مُعاكساً في لحظة واحدة. ولا ننسى... إضافة الى كلّ ما ورد، فالجهاز صاعقٌ للنّاموس والحشرات! فهل بلغ وصف المتحرشين الجنسيّين بالحشرات والناموس في شكل يُسيء لكينونتِهم وإنسانيّتهم؟ قد يبدو العنوان طريفاً يدعو لاستكشاف الأمر. لذلك، هرولت إلى اليوتيوب لأعاين آخر الابتكارات المضادّة للتحرّش الجنسيّ، وحبُّ استطلاعي أثار بي من الاستفزاز ما أثار من الاشمئزاز، أمام كرامة أنثى يُلطّخ بها بطريقة تجاريّة، تُسفّه الأنثى بفكرها وبطريقة مشيتها في شكلٍ ساخر، كأنّما يُحمّلها مسؤوليّة جرائمها الأخلاقيّة، ويُظهرها بصورة مُدانةٍ تستحقّ العقاب والشماتة! والأنكى، أنّ التي تسارع إلى شراءِ هذا الجهاز، تحصل على فستان مِن أشهر الماركات العالميّة، وفي في قمة الإغراء! لماذا توضع الأنثى بين شفرات التناقضات؟ كيف نقتنع بفكرة نناصرها، وهي تحمل في طيّاتِها مِن التّناقضاتِ ما يُكفّر بالمرأة وبكينونتها البشرية والإنسانيّة؟ هل التغلب على ظاهرة التحرّش الجنسيّ يستوجب التزوّد بتقنيّاتٍ وبشراءِ أجهزةٍ للدّفاع عن النفس وحمايتها مِن المتحرّشين؟ وهل تحتاج الأنثى إلى التسلّح بأدوات مضادّة للتحرّش الجنسيّ، مِن بخّاخات ولاسعات كهربائيّة وتقنيّات أخرى، وكأنّ لغة الغاب صارت لغة بلداننا في غياب القانون والأمن والأمان؟ هل نحتاج إلى لغة ترهيبٍ وتخويفٍ ووعيد، أم إلى تعديل السّلوك والرّوادع الذاتية مِن تربيةٍ ومؤسّساتٍ تعليميّةٍ ودينيّة، ودينٍ وأخلاقيّات، واحترام العادات والتقاليد والإنسان داخل بيته وخارجه، وفي كلّ مكان؟ وأخيراً أين دور الأمن والقانون والتّربية والتوعية والتثقيف في الأسرة والمؤسّسات التعليميّة والدّينيّة، لتهذيب سلوك الفرد واحترام المجتمع، وكيفيّة اللّبس والنظر والابتسام والمشي؟