ليس من اليسير معرفة ما إذا كان من شأن عالم الفن والأدب، أن يكرس لحكاية «توراندوت»، أي اهتمام خاص لولا أن الشاعر الألماني الكبير شيلر، اكتشف هذه الحكاية في ثنايا كتاب فارسي قرأه ذات يوم بالصدفة، ويقول مؤرخو حياته إن اسمه «ألف يوم ويوم»، ولربما لم يكن هذا الكتاب شيئاً آخر غير «ألف ليلة وليلة» العربي الذي نعرف أن له أصولاً فارسية وهندية وصينية، بين أصول عدة أخرى. يومها، إذ أبدى شيلر إعجابه بالحكاية، قيل له إن الإيطالي كارلو غوتزي، كان حوّلها إلى مسرحية من فصول خمسة عرضت للمرة الأولى في البندقية عام 1762. على الفور حصل شيلر على نسخة من النص الإيطالي، وترجمه إلى الألمانية ليقدم على المسرح في فايمار، من إخراج غوته! فهل يمكننا أن ننكر هنا أن عملاً يحمل في تاريخه كل هذه الأسماء، لا بد من أن يكون، في نهاية الأمر، شيئاً ما؟ ومع هذا، إذا قرأنا الحكاية اليوم سيدهشنا واقع أنها أثارت كل ذلك الإعجاب، لا سيما، من لدن كل أولئك الرومنطيقيين. ولعل الجواب عن أي تساؤل في هذا الإطار، يكمن ها هنا: أي في المناخ الغريب الذي تدور ضمنه حكاية لا عمق فيها، ولا حتى دراما عنيفة. فيها فقط أحداث تتوالى، ولحظات تحبس الأنفاس، وصراع معرفي، يذكّر هنا، ببعض حكايات «ألف ليلة وليلة»، حقاً، مثل حكاية «الجارية تودد» على سبيل المثال. ولعل هذه العناصر، إذ اجتمعت هنا، ناهيك بتدخل اسمي شيلر وغوته في الأمر، هي ما أغرى الموسيقي الإيطالي جاكومو بوتشيني، بعد زميلين له، هما الألماني كارل ماريا فان فيبر، والإيطالي فروشيو بوزوني، بأن يحول هذا النص إلى أوبرا. وذلك انطلاقاً من فكرة كانت تقول، إنه كلما كان النص الشعري أبسط وأكثر خواء، أتاح ذلك للعمل الموسيقي أن يفرض نفسه. ولا ننسينّ هنا أن بوتشيني قد اشتغل على «توراندوت» خلال الأعوام الأخيرة من حياته، بل إنه مات من دون أن يكمل الفصل الثالث والأخير من الأوبرا، التي لم تعرض، على أي حال، للمرة الأولى، إلا بعد موته في عام 1924، في ميلانو، وقد قاد الأوركسترا في عروضها الأولى آرتورو توسكانيني. ولا بد من أن نذكر هنا، منذ الآن أن «توراندوت» لم تضف شيئاً إلى رصيد بوتشيني ومجده، خلال حياته ولا بعد موته، حتى وإن كانت - وحتى الآن - واحدة من الأوبرات التي تقدم أكثر من أية أعمال أخرى. ومرة ثانية لا بد من أن نفترض أن ما يثير الإعجاب والإقبال على هذا العمل، إنما هو بساطته ومناخه الرومنطيقي وغرابة أجوائه. وهي أمور تساهم فيها موسيقى بوتشيني مساهمة أساسية، ولا سيما في اقتباسات من الموسيقى الصينية، لا عبقرية فيها على أية حال. هناك اختلافات لا بأس فيها، بين النص الأوبرالي الذي اشتغل عليه بوتشيني، وبين المسرحية الأصلية، ولعل أهم هذه الاختلافات يكمن في الفصل الثالث وحول شخصية أساسية هي الحسناء ليو، التي كان اسمها لدى غوتزي أدلما، كما سنرى. وليو هذه ليست بطلة الأوبرا، لكنها محور أساس من محاور الأحداث... ومن هنا، إذ بدّل بوتشيني شخصيتها ليجعلها تنتحر إذ أفشت سرّ اسم حبيبها أمام الأميرة الظالمة توراندوت، كان هذا التبديل، أساسياً في إضفاء طابع رومانسي/ تراجيدي على العمل... بل أعطاه لحظة استيقاظ لا شك فيها. ولنعد هنا إلى أحداث «توراندوت». وهذه الأخيرة أميرة صينية حسناء، مدللة، لديها أفكار وآراء تصب كلها في كراهيتها للبشر. وإذ يطلب إليها ذات يوم أن تختار عريساً لها من بين المتقدمين المتزاحمين طمعاً في العرش الذي يمكن أن ترثه عن أبيها، الضعيف أمام نزواتها، تشترط توراندوت في عريسها العتيد أن يتمكن أولاً من حل ثلاثة ألغاز تطرحها عليه. فإذا نجح يتزوجها، أما إذا فشل فإن رأسه تقطع. وحين تبدأ الأوبرا، نعرف أن كثراً كانوا قد حاولوا وفشلوا. أما الآن، فنحن في بكين، ولدينا الأمير الشاب خلف، الذي يرافق أباه، ملك التتار المخلوع تيمور، وعبدته الحسناء ليو، التي تحبه في سرها وتخلص له، وها هي ترافقه وترافق أباه، هاربين من قمع السلطات التي خلعت الأب عن عرشه. في بكين، يجد الثلاثة أنفسهم وسط جموع تبدو مهمومة بآخر شخص أعدمته الأميرة توراندوت، لأنه تقدم لها وعجز عن حل الألغاز. وإذ يشاهد خلف الأميرة ينبهر بجمالها البارد القاسي، وبفكرة أنها صعبة المنال، فيقرر أن يجرب حظه. لكن أباه والعبدة ليو يحاولان ردعه عن ذلك، كما تحاول ردعه ثلاث من نساء البلاط الصيني: بنغ، بانغ، وبونغ (اللواتي يقمن، إلى حد ما، بدور الكورس)... لكن الأمير خلف لا يرتدع، خصوصاً أن النساء الثلاث إذ يشتكين أمامه من حال الإمبراطورية المتردية بسبب قسوة الأميرة توراندوت، وعجز أبيها عن إمساكها... يخبرن الأمير أن البلاد لن تعرف الهدوء، وبالتالي لن تستعيد الإمبراطورية حالها، إلا إذا عاشت توراندوت حباً حقيقياً. وأن تقرر توراندوت أن هذا هو الحب. فيتقدم خلف للامتحان ليتقرر أنه سيكون التالي وهذا ما ينقلنا إلى الفصل الثاني، يوم امتحانه. عندما يصل خلف، ولا أحد هنا يعرف هويته الحقيقية أو اسمه، أو أنه ابن ملك التتار المخلوع، يكون أهل البلاط مجتمعين معاً والأميرة تتوسطهم. وما إن يعلن خلف نياته، حتى تطرح عليه توراندوت الحسناء ألغازها الثلاثة. وهو، بسرعة، وأمام دهشة الجميع، بل ذهولهم، كما أمام الفرحة العامة، داخل القاعة، يجيب حالاً على الألغاز في شكل صحيح. لكن الفرحة لم تكن عامة. ذلك أن توراندوت تشعر بأقصى درجات الاستياء ثم تلتفت إلى أبيها الإمبراطور طالبة منه، أن يحلّها من وعدها، وأن يخلّصها من هذا الفتى المجهول... لكن الإمبراطور لا يريد هذا. لذا، يصم أذنيه عن مطلب ابنته، ويسود القلق لحظات، حتى يقف خلف نفسه، ويقول للأميرة إنه يحلّها من وعدها ويخلصها منه شخصياً، إن تمكنت من أن تعرف اسمه الحقيقي ومن أين أتى... وذلك قبل انبلاج ضوء الفجر. وكان واضحاً أن خلف إنما أراد بهذه المناورة أن يكسب حب الأميرة من طريق سيطرته المعرفية عليها... أما هذه، فإنها إذ بدا أن انتصاره عليها سيبدل شخصيتها، تقرر أن تهزمه، وهكذا تشغل نفسها طوال الليل بالبحث عنه وعن أصوله، بل يصل بها الأمر إلى أن تعرض عليه ثروة طائلة ومناصب عالية، إن هو أفشى السر أمامها بحيث يمكّنها من الانتصار عليه، لكنه يرفض. فتلجأ إلى حيلة أخرى: تأمر بأن يؤتى إليها بمرافقي خلف، أبيه وعبدته مقيّدين. وإذ تهدد الأميرة بقتل تيمور، تضحّي ليو المسكينة بحبها لخلف، فتخبر الأميرة أنها الوحيدة التي تعرف هوية الشاب... ثم تعذّب حتى تنتحر في النهاية، محتفظة بالسر لنفسها مخلّصة تيمور من مصير رسم له. وهنا لا يسع توراندوت، أمام قسوة ما حصل، إلا أن تذعن... لكنها تكتشف وهي تفعل هذا، أنها باتت منجذبة نحو الشاب المقدام. أما هو فإنه، إذ يبقى هنيهة معها، يؤنبها على برود عواطفها وقسوتها، ثم يطبع على شفتيها قبلة - تردّ كل إنسانيتها إليها للمرة الأولى في حياتها. وهنا، إذ يقهر خلف كل مقاومة لدى توراندوت، يفشي لها بسره. وإذ ينبلج الفجر، ويتجمع أهل البلاط، تقف توراندوت في وسطهم لتعلن أنها، أخيراً، عرفت اسم الشاب: إنه الحب. يعتبر جاكومو بوتشيني (1858 - 1924) من آخر الكبار في فن الأوبرا الإيطالي وهو ولد في توسكانا ومات في بروكسيل، وتميز فنه بالنزعة الطبيعية، حتى وإن كانت موسيقاه تخلفت عن الحداثة الموسيقية التي سادت في زمنه. وحتى هنا غلب على أعماله طابع كلاسيكي لا يخلو من رومانسية، ومن أشهر هذه الأعمال «البوهيمية» و «مدام باترفلاي» و «توسكا»... وغيرها. [email protected]