المحنة التي يواجهها الشعب الليبي ليس لها مثيل في تاريخه. لقد عرفنا احتلالاً ظالماً من قبل، ولكننا حاربناه كليبيين موحدين. ووقعنا تحت سلطة طاغية وانقسمنا بين مؤيد وداعم له، إلا أننا لم نرفع السلاح ضد بعضنا البعض. وخضنا حروباً، أو شاركنا في حروب، إلا إننا نجد أنفسنا في مواجهة مرتزقة. وحيثما كنا نعادي قوى الاستعمار، فإن الأقدار جعلت الدكتاتورية من الظلم والقسوة حتى بات الاستعمار أرحم علينا من حاكمنا المستبد. هناك جرائم كثيرة ترتكب اليوم في ليبيا. ويجب أن نفعل كل ما بوسعنا لوقفها. كما يجب أن نكون مستعدين لمد يد العون للضحايا. يجب أن نعترف، بأننا إذا كنا مخدوعين في يوم من الأيام بنظام العقيد معمر القذافي، فإن الحقيقة أصبحت صارخة جداً اليوم. فكتائب هذا الطاغية تمارس كل أنواع الانتهاكات ضد المدنيين والأبرياء. وإلى جانب أعمال القتل والنهب، فإن تلك الكتائب تمارس جرائم التعذيب والاغتصاب من دون وازع من ضمير، ومن دون أي احترام للقيم الاجتماعية والأخلاقية، دع عنك القيم الدينية أيضاً. الليبيون شعبٌ طيب. ونحن شعبٌ صبور أيضاً. لقد صبرنا على الظلم أكثر من 40 عاماً. ولكن لم يعد هناك متسعٌ للمزيد من الصبر. وعندما خرج الضحايا ليطالبوا بالقليل من حقوقهم المشروعة، فقد حرّك العقيد ضدهم طائراته ودباباته وهدد بارتكاب مجزرة ضدهم. بل وأطلق عليهم أوصافاً لم يسبق لأي زعيم في التاريخ أن أطلقها ضد شعبه. مع ذلك، فإن أيام الطغيان باتت معدودة. وعلينا أن نجد سبيلاً لبناء مستقبل أفضل. هناك هدف عاجل يجب أن نعمل كل شيء من أجل تحقيقه اليوم وليس غداً، وهو دفع كتائب العقيد القذافي إلى أن تكف عن ارتكاب المجازر ضد المدنيين. وأن تكف فوراً عن استخدام الأسلحة الثقيلة لمهاجمة المدن، وأن تسمح بدخول مواد الإغاثة للمحاصرين وسط تقاطع النيران. فإذا لم نجد سبيلاً إلى تحقيق هذا الهدف بوسائل الديبلوماسية والحوار، فإن الخيار الوحيد الذي سيبقى أمامنا هو الذهاب إلى أبعد حد ممكن في ملاحقة تلك الكتائب، من أجل جعلها عاجزة عن استخدام المدافع والدبابات والصواريخ ضد الأحياء الآهلة بالسكان. هذا هدفٌ أول، ويجب الحرص على تحقيقه بأسرع وقت ممكن. فكلما تأخرنا أكثر، كلما ارتفعت أعداد الضحايا أكثر. ونحن لا نريد أن نجد أنفسنا في وضعٍ يتحول فيه التدخل الدولي لمساعدة الشعب الليبي إلى معركة طويلة يقع بسببها عدد غير محدود من الضحايا. ونحن نريد، ثانياً، أن يرحل القذافي عن السلطة. هو وأبناؤه معه. لقد حكم أكثر مما حكم غيره في المنطقة. وهذا يكفي. وعلى الرغم من كل قسوة الجرائم التي ارتكبها، فإنه إذا احتكم إلى العقل، فقد يجد لنفسه متسعاً من الرحمة لكي يعثر على مكان آمن يلجأ إليه. ونحن نريد ثالثاً، أن نعمل على بناء نظام ديموقراطي يحترم حقوق مواطنيه ويوفر لهم ضمانات تحمي حرياتهم. وذلك في ظل دولة قانون، ترسي أسساً للعدالة والمساواة بين الأفراد، ومن دون تمييز. وضمن هذا الإطار، نريد نظاماً يحترم حقوق المرأة ويكفل مساواتها. فهذه المسألة تشكل مؤشراً حقيقياً إلى مدى متانة وصدق المعايير والأخلاقيات الديموقراطية. ومن دون هذه المساواة فإن الديموقراطية لن تكون إلا مشروعاً للخداع والزيف. لا نريد تكرار تجربة العراق، حيث كان النظام السابق أفضل، من النظام الذي أقيم بعد الحرب، من الناحية المتعلقة بحقوق المرأة. ومن الواضح إن الديموقراطية في هذا البلد لا تزال مشروعاً متعثراً، لأن العقلية التي يهون عليها اضطهاد المرأة وممارسة التمييز ضدها لا يمكنها، وهي غير مؤهلة أصلاً، لإقامة نظام ديموقراطي. لا نريد تكرار هذه التجربة الفاشلة. ويهمني للغاية أن أؤكد إن حماية حقوق وحريات المرأة ستكون هي المقياس لمدى نجاح المشروع الديموقراطي. الذين يضطهدون أمهاتهم وأخواتهم ونساءهم في المنازل، لا يمكنهم أن يكونوا رحماء مع شعبهم، حتى ولو زعموا أنهم ديموقراطيون. الهدف الثالث الذي يجب أن نسعى إليه هو محاكمة الجريمة قبل محاكمة المجرم. يجب أن نحاكم جريمة الاستبداد وجريمة الفساد، قبل أن نحاكم المستبد والفاسد. لا يجب وضع العربة أمام الحصان. إن محاكمة الاستبداد أولاً ستوفر أساساً لإرساء معايير وأخلاقيات وقيم. ومن دونها فإن محاكمة المستبد ستكون مشروعاً للثأر فقط. والثأر ليس أساساً صالحاً للبناء. نعم من المهم أن نحاكم مرتكبي الجرائم أنفسهم. ولكن من المهم أكثر أن نحاكم الجريمة أولاً. وهناك فرق شاسع بين محاكمة المجرم، وبين محاكمة الجريمة. إن محاكمة اللص، في مجتمع يتساهل مع السرقة، لا تكفل القضاء على اللصوصية. كما إن محاكمة المستبد، في مجتمع يتساهل مع الاستبداد، لا تكفل القضاء على الدكتاتورية. يجب علينا جميعاً أن نعمل على تأهيل مجتمعنا لكي يعرف لماذا يجب أن يكره ويكافح الفساد والاستبداد. ساعتها فقط سوف تكون محاكمة الفاسد والدكتاتور مشروعاً للبناء وليس مشروعاً للثأر. عندما نحاكم الدكتاتورية قبل أن نحاكم الدكتاتور، سوف نوفر لمجتمعنا سبيلاً لكي لا يقع ضحية دكتاتورية أخرى. المسألة مسألة إرساء أخلاقيات ومبادئ وقيم قبل أن نقوم بأي عمل لملاحقة الطغاة والفاسدين. لماذا؟ لأن قتل طاغية واحد لا يضمن عدم ظهور طاغية آخر. يجب قتل الطغيان أولاً. يجب إزالته من المنبت السياسي والاجتماعي والدستوري. ويجب أن نعرف كيف نضع الحد الذي يفصل بين محاكمة الجريمة من أجل البناء وبين محاكمتها من أجل الثأر. الدكتاتور هو الذي ينتصر إذا حولناه إلى ضحية بسبب دوافع الثأر التي يندفع إليها بعض المتحمسين. والطغيان هو الذي ينتصر إذا كافحناه بطغيان آخر. والخطأ هو الذي ينتصر إذا عالجناه بخطأ آخر. الأخطاء والانتهاكات والجرائم التي رافقت محاكمة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين محت كل آثار طغيانه وحولته إلى شهيد. العقيد القذافي لا يستحق هذه المرتبة. وأولى بالذين يرغبون في محاكمته أن يتحاشوا تكرار تلك التجربة لكي لا يصنعوا منه بطلاً. إذا كنت تكره طاغية، فكن عادلاً معه. ساعتها سيموت مرتين. مرة بطغيانه، ومرة بعدالتك. ونريد أن نجد سبيلاً لمعالجة آثار الطغيان في المجتمع. كما يجب أن نجد سبيلاً لتقديم المساعدة للضحايا. أنا واثقة من أن ذكرى هذه الحرب ستمضي بطائراتها وصواريخها، ولكن أغلى ما سوف يبقى منها هو وقوف الأحرار إلى جانب الضحايا من أجل مساعدتهم على استئناف حياتهم من جديد. وأرجو أن تكونوا على ثقة. نحن مثل كل الناس، شعبٌ يحب الحرية ولا ينسى الذين يقفون إلى جانبه في وقت الضيق. * مديرة جمعية التواصل في بريطانيا