أخيراً رحل الدكتاتور الذي لم يكتفِ بالعبث بشعبه والتنكيل به، وتشتيت مقدرات بلاده وثرواتها، بل تجاوز ذلك إلى جيرانه العرب، والعالم أجمع، ولعل الأغرب هو قدرته على إثارة سخط العالم وإضحاكه في الوقت ذاته، رحل بطريقة غير لائقة بجبروت ديكتاتور لم يتوقف عن شتم أفراد شعبه حتى قبيل القبض عليه وقتله، لم يتورع عن وصفهم بالجرذان قبل أن يتم اصطياده داخل ماسورة تصريف سيول، لم تستطع أن تصرف عن القدر الأخير. خرج أشعث الرأس، بين تكبيرات الثوار وضربهم له على وجهه المدمى، والبصق عليه، وهو أمر لا يملك المجلس الوطني الانتقالي الليبي التصرف حياله، وإلا لكان القبض عليه بتعقل، وتسليمه للمجلس من أجل محاكمته على جرائمه، إضافة مهمة لنقاء الثورة الليبية وجمالها، لكن من الصعب أن نحاكم جمال الوردة جمالها بسبب شوكها، تلك مسائل يصعب التحكم فيها، لتعدد فرق الثوار وصعوبة التنسيق فيما بينهم، والدليل على ذلك أن إعلان خبر القبض عليه أسيراً أو ميتاً بقي ما يقارب الساعة للتأكد منه. ما يهم الآن، هو أن ليبيا حرة، استيقظت على صباح جديد، وهواء جديد، بعيداً عن سطوة الدكتاتور وجبروته، ولعل الأهم الآن بعيداً عن أخلاقيات الثورة وعدالتها، وحتى لا تكون نسخة جديدة من الظلم والاستبداد، هو ألا تفرّط بما حققته حتى الآن، بل يجب أن تنصرف إلى بناء ليبيا حديثة، بعد أن بقيت مسجونة في بيئة التخلف والفساد والقمع، على مدى عقود أربعة، فهذه البلاد التي وهبها الله الجمال والموارد الطبيعية والبشرية، تستحق أن تكون إحدى بلدان العالم المتطوّر. من ينظر إلى صورة الدكتاتور وهو يتحوّل إلى ألعوبة في أيدي هؤلاء الشبان، يسأل نفسه ماذا لو كان معمر مجرّد بائع جوال في أحد أزقة طرابلس القديمة، ماذا لوكان بائع جوال مات في حادث مروري مثلاً؟ حتماً ستكون ميتة شرف لا مهانة وذلة، كما حدث له أمام الملأ، وعلى شاشات التلفزة العالمية، وعلى صدور الصفحات العالمية، وفي موقع اليوتيوب، فمن يشاهد وقفته المستبدة وتعاليه وهو يهدد ويتوعد الثوار، ويصفهم بالجرذان، وقفته المقنطرة بالذهب والغطرسة والدكتاتورية، لا يتخيل وجهه البائس القانط وهو يتلفت ويمسح الدم عن صدغه! كم كنت أستعيد صور جميع دكتاتوريي العالم، خاصة في أمريكا اللاتينية، وأقارنها بالعقيد المسحوق أمامي على الشاشة! أعتقد أن على الليبيين الآن التفكير في ليبيا ما بعد القذافي، كيف يمكن إعادة البناء الداخلي، وفي الوقت ذاته، إعادة ليبيا إلى المنظومة الدولية بعد أن بقيت لعقود طويلة خارج تلك المنظومة، فدولة نفطية مثل ليبيا تملك القدرة على أن تعود إلى الحياة من جديد، أكثر من غيرها، لكن الأهم هو أن تسارع إلى تكريس الديمقراطية والانتخابات الحرة النزيهة والعلاقات الدولية المتميزة. قد يكون موت الدكتاتور مباشرة ينقذ الشعب الليبي من الانشغال بمحاكمته لأشهر طويلة، كما يحدث في مصر، وقد يخفف من القلق في احتمالات اشتغال عناصر مناصرة لنظامه، في تقويض الثورة، ولكن الفارق هنا هو كيفية إعادة النظام والهدوء، كيفية نزع السلاح، خاصة أنه لم يكن الجيش، كما في مصر، هو من تولّى الفترة الانتقالية، بل مجموعات من الثوار تندرج تحت قيادة المجلس الوطني الانتقالي، فما سيقوم به المجلس هو ما سيصنع وجه ليبيا القادم، والأمل هو أن يقودها إلى دولة دستور ونظام ومؤسسات ومجتمع مدني، ذلك ما نتمناه لها جميعاً.